إن حقائق كثيرة متنوعة ومتضافرة تؤكد بأن الإغريق هم مبدعو الفلسفة بمفهومها الخلاق وبتجسيداتها المعرفية والسياسية والاجتماعية وبانفتاحها المطلق على كل الآفاق
إن الحضارة المعاصرة بكل إنجازاتها الهائلة في مجالات العلم والتعليم والنقل والاتصالات والآداب والفنون والتقنيات، والسياسة والاجتماع وما لا حصر له من الابداعات التي حققت التغيرات النوعية التي طرأت على الحياة الإنسانية هي نتاج الفكر الفلسفي وخصوصاً الفكر النقدي الفاحص وهو فكر باهر بزغ فجأة في اليونان في القرن السادس قبل الميلاد وبلغ نهاية تألقه في القرن الخامس قبل الميلاد أما لماذا كانت الفلسفة خلف ما تحقق من باهر الانجازات؟ فيعود ذلك إلى أن الفلسفة توقفٌ عن التلقائية الثقافية المألوفة ومحاكمة لها وتساؤل حاد وعميق عن مكوناتها وعن مصدر هذه المكونات. إنها إعادة خلق وتكوين للثقافة الإنسانية، وإن الفلسفة هي التي حركت العقل الإنساني وأذنت بالابداع فالابداع انقطاع عن التلقائية من أجل انجاز ما هو جديد وغير مألوف وغير تلقائي بليد، إنه يقظة استثنائية جياشة فاحصة للسابق والراهن وخلاقة للجديد والمتجدد...
ولأن الحضارة المعاصرة نتاج الفكر الفلسفي الخلاق فإن استاذ الفلسفة الأمريكي ريتشارد تارناس يستهلّ كتابه (آلام العقل الغربي) بتأكيد أن الحضارة الغربية امتداد للحضارة اليونانية التي أبدعت الفكر الفلسفي الباهر فيقول: «نبدأ مع الإغريق فذلك العالم الهليني هو الذي أقدم منذ خمسة وعشرين قرناً على استحداث ذلك الازدهار الثقافي الخارق الذي دشن فجر الحضارة الغربية. نجح قدماء الإغريق في تجهيز العقل الغربي بما أثبت أنه معين أبدي للحصافة وللإلهام وللتجديد فالعلوم الحديثة والنزعة الإنسانية الكلاسيكية مثقلة جميعها بديونهم وأفضالهم» وهو بهذا لا يكتشف أو يكشف عن حقيقة جديدة وإنما هو يكرر التذكير بما هو معروف وثابت وكما قال زكي نجيب محمود وأحمد أمين في كتابهما (قصة الفلسفة اليونانية): «الفلسفة خلقها اليونان خلقاً وأنشأوها إنشاءً فهي وليدتهم وربيبتهم ليس في ذلك ريب ولا شك، ويستطيع الباحث أن يرجع بالفلسفة خطوة بعد خطوة حتى يصل إلى مهدها في بلاد اليونان دون أن يشعر في خلال البحث بحلقة مفقودة».
ومع وضوح أن الفلسفة إبداع يوناني محض وأنها تمثل طفرة نوعية عظيمة في الفكر البشري فإن هذه الحقيقة بجلائها الباهر لم تكن لدى البعض كافية للتسليم بها وإنما ظل الجدل قائماً حول ادعاءات الأصول الشرقية لهذه الطفرة المعرفية الهائلة...
لم تكن محاولات التنقيب والتعليل المعتسف عن أصول شرقية للطفرة المعرفية اليونانية مقصورة على باحثين من الشرق وإنما تعددت المحاولات وتنوعت من الغرب ذاته بحثاً عن أساس شرقي لتلك الطفرة المدهشة، ولكن حقائق التاريخ الحضاري وتاريخ العلوم وأوضاع الشعوب في هذا العصر كلها تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الفكر الفلسفي الذي أبدعه الإغريق كان طفرة ثقافية خارقة غير مسبوقة، وأن تلك الطفرة العجيبة الخلاقة قد أحدثت تغيراً نوعياً في التفكير البشري وارتقت به من مستوى الدوران في ذات المكان والاجترار والاضافات الكمية التلقائية إلى مستوى الابداع في طريقة التفكير، وفي تأكيد قيمة الإنسان الفرد وفي تنظيم وإدارة المجتمع، وفي ايجاد أسس نظرية وآليات اجرائية لتحريك العقل وايقاد الفكر وتوليد الأفكار وتنمية المعارف وتطوير وسائل الحياة وابتكار أساليب جديدة للأداء..
إن حقائق كثيرة متنوعة ومتضافرة تؤكد بأن الإغريق هم مبدعو الفلسفة بمفهومها الخلاق وبتجسيداتها المعرفية والسياسية والاجتماعية، وبانفتاحها المطلق على كل الآفاق وأنهم بالتالي هم مؤسسو الحضارة الغربية فهم الرواد الباهرون لحضارة العصر إن هذه قد باتت حقيقة مؤكدة وهي حقيقة تزداد إشراقاً كلما تكشفت عوائق تنمية المجتمعات المتخلفة؛ لأن موانع التحديث قد أظهرت بوضوح شديد لمن يبحث بعناية أنها موانع بنيوية صلدة وعسيرة، وأن اختراقها وتجاوزها والارتقاء إلى مستوى الفاعلية من أجل المشاركة الايجابية في حضارة العصر تتطلب تغييرات نوعية لا تحققها الجهود والأعمال والاجراءات الكمية مهما بلغت من التنوع والكثافة وبسبب هذا المطلب النوعي لم يستطع تعميم التعليم ولا معاهد البحث، ولا الخطط الطويلة والقصيرة، ولا التنظيم البيروقراطي أن تحقق التنمية المنشودة إلا في المجتمعات التي تقبَّلت إحداث تغييرات نوعية في طريقة التفكير وفي منظومة القيم وفي مجمل الاهتمامات، وفي أسلوب الحياة أما الاضافات الكمية في المعارف والتقنيات والنظم والاجراءات فهي شكليات تكرس الواقع وتحمي بنية التخلف فلا يمكن ان تتحقق بها الوثبة التنموية المطلوبة..
إن استمرار الاجترار في مختلف الثقافات الإنسانية خلال القرون الممتدة المتتالية، ثم حصول هذه الطفرة الحضارة الهائلة قد دفعني إلى ان أعكف بإمعان لأدرس تاريخ الحضارات البابلية والآشورية والمصرية والصينية واليابانية والهندية والفارسية والحيثية والفينقية وغيرها، وأن أمعن النظر في مسيرة كل الحضارات القديمة فرأيت كيف جرى تلقائياً تدجين الإنسان وبرمجته على الاستسلام المطلق والطاعة العمياء والقبول غير المشروط، والإلغاء التام لفرديته واندفاعه التلقائي لتوثيق قيوده وحماية سجونه الذهنية والوجدانية فهالني أن ينعتق الإنسان من ذلك الاخطبوط الهائل من العوائق الثقافية والحواجز النفسية فقد كان الناس في كل الثقافات من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب يتبرمجون تلقائياً بتقديس المألوف والغبطة بالسائد، والرفض التلقائي القاطع لأي فكر طارئ وكان الإفلات من شبكة المعوقات الذهنية والعاطفية ومن الهيمنة المستحكمة للغبطة بالثقافات السائدة أشبه بالمعجزة ولكن هذا الإفلات قد حصل فعلاً!! فكيف حصل؟!!!
إن هذا الإفلات العجيب المدهش قد حصل بسبب عبقرية الحرية الاستثنائية التي تحققت في اليونان فهيأت لظهور الفكر الفلسفي، وسمحت بتأسيس الفلسفة فهذه الطفرة في الفكر مثلّت نقلة نوعية هائلة في التفكير الإنساني، وفتحت للتطور الثقافي والحضاري والعلمي والتقني والأدبي والاجتماعي والسياسي آفاقاً لا حدود لها أما كيف حصل ذلك فتحكيه قصة حياة المؤسس الأول للفلسفة طاليس الملطي فقد كانت أسرته تعيش في الشام وكان الشام كغيره من بلدان الشرق محكوماً بمنطق القوة والإخضاع، وكان الاستبداد المطلق والقهر والظلم مألوفاً للجميع فلا يوضع موضع البحث والفحص والتحليل وإنما يتعاملون معه كما يتعاملون مع ما اعتادوه وألفوه كشيء طبيعي لا مفر منه ولا سبيل إلى تفاديه ولا الشكوى منه فهو مثل حرارة الشمس وحلول الظلام وقسوة البرد وثوران البراكين وحدوث الزلازل، واندفاع الأعاصير وانتشار الأوبئة وتقلب المناخ أي أن الناس في الشرق كانوا ينظرون إلى الحكم الاستبدادي المطلق بوصفه من ثوابت الحياة البشرية التي لا مجال لتفاديها، أو الاعتراض عليها إنه في عُرفهم وضع طبيعي تماماً لا مجال لجعله موضوعاً للبحث والنظر والمناقشة فهو فوق التناول البشري إنه من المحرمات القصوى، إنه ليس شأناً مطروحاً للبحث والتقييم فالسلطة لا يُحصل عليها بالاختيار والاقناع وإنما يجري الوصول إليها بالقوة والاخضاع وبنفس الأسلوب وبذات المنطق تنتقل السلطة من شعب إلى آخر، ومن أسرة حاكمة إلى أخرى فلا شيء يتغير سوى أسماء الحاكمين ومرجعياتهم الثقافية أما الأوضاع فتظل كما هي وإذا تغير كان التغير في الغالب نحو الأسوأ..
إن الإنسان في هذا الشرق الكئيب منذ وُجد وهو معتاد ومبرمج على قبول الاستبداد المطلق واستساغة الظلم والقهر إنه النظام السائد الذي ألفه الناس واعتادوا عليه فالتعايش معه والاستسلام له هو السلوك التلقائي الذي لا يخطر على البال أن يوضع موضع المناقشة والتحليل، أما العدل إذا حصل نادراً فلا يأتي باختيار الناس وتأثيرهم ومطالبتهم وضغطهم وإنما هو فضل فردي وكرم خاطف من حاكم استثنائي عابر، إنه ليس من طبيعة النظام وإنما هو خروج عليه إنه مبادرة فردية تموت بموت الحاكم العادل وهو في العادة لا يطول عمره فيموت سريعاً أو يُمات علناً أو بدس السم له!! فالعدل هو المنحة الطارئة المؤقتة وليس الحق الثابت الدائم إنه الشيء النادر الاستثنائي الذي يبتهج الناس به ولا ينتظرون استمراره، ويبالغون في الثناء عليه ويمعنون في تمجيده لكنهم يتعاملون معه كحالة استثنائية عابرة وخاطفة لأن طبيعة التكوين الاجتماعي والثقافي والسياسي في الشرق لا تسمح باستمراره ولا بطول أمده فهو كالمذنَّبات التي تمر بأجواء الأرض عابرة ثم لا تعود إلا بعد عشرات السنين، وكالمطر في الصحارى الجدباء لا يهطل إلا نادراً وإذا هطل تباشر الناس به وتخابروا عنه فأخباره من أهم الأخبار بسبب ندرته..
لكن أسرة طاليس الملطي الذي عايشت الاستبداد الشرقي المطلق وتعرضت للظلم والمهانة والقهر نزحت من الشام فابتعدت عن الحكم القهري إلى ملطية ذات النظام الحر نسبياً وهي من الأوطان اليونانية التي تنعم بشيء من العدل والحرية وهناك وُلد طاليس ومع أنه لم يعايش أوضاع الشرق الخانقة للعقل إلا أنه كان يسمع من أهله عن فظائع ظلم الشرق وعدالة اليونان وعن ضيق الاستبداد وفسحة الحرية فنشأ حر العقل متوقد التفكير متطلعاً إلى انقاذ الإنسانية من الأجواء الاستبدادية الخانقة..
لقد أدرك طاليس بثاقب عقله وعظيم حكمته ورهافة حسه وحيوية ضميره وبُعد نظره بأن الاستبداد السياسي المطلق يصادر العقول مصادرة شنيعة فيؤدي ذلك إلى الانغلاق الثقافي مما يجعل الناس يرضون بأسوأ الأوضاع، ويدافعون عن أشد الثقافات إمعاناً في الخرافة ويغتبطون بعطالة العقل. وهم يتوهمون أنهم الأعقل، كما أدرك بأن خضوع الكهان والمرجعيات الثقافية في حضارات الشرق القديمة للسلطة السياسية الاستبدادية المطلقة قد ارتهن الثقافة للسياسة وأبقاها تحت الوصاية السلطوية وعرف طاليس أن هذه الوصاية على الثقافة هي العائق الأكبر للتقدم فبقاء الثقافة تحت وصاية السياسة هو الذي أبقى الشرق في الجهالة والعجز لأن خضوع الثقافة للسياسة ينتج عنه تسخير الفكر لخدمة الواقع البائس المهين فيتأكد المألوف ويتعذر الانعتاق منه فتبقى الشعوب مأسورة بواقع كئيب فظيع لا فكاك منه وحتى لو انتقلت السيادة من شعب إلى آخر أو من أسرة حاكمة إلى أسرة أخرى فإن أسلوب الحياة يظل كما هو: سلطة سياسية استبدادية مطلقة تسيطر على الثقافة الخانعة، ويخضع لها الكُهّان وسدنة الثقافة ومرجعيات التوجيه الفكري والأخلاقي وبهذا تنعدم امكانات استماع الناس لرواد الفكر الحر، وتصبح الاستجابة للريادة الفكرية أشبه بالمحال..
إنه لا مجال للانعتاق من التخلف إلا بالتكامل العضوي بين الريادة الفكرية الخارقة، والاستجابة الايجابية الجماعية الكافية. إن الريادة قد تكون كشفاً علمياً مهماً أو توصلاً لدواء ناجع أو اختراعاً لوسيلة نافعة، أو ابتكاراً لمهارة جديدة ونحو ذلك من الريادات الجزئية المهمة لكنها تبقى ريادات جزئية تفيد في مجالها المحدود إنها اضافة قد تكون مهمة لكن ليس للاضافات الجزئية أهمية كبيرة إلا إذا صاحبها تغيّرٌ نوعي في طريقة التفكير، وتبديلٌ لمنظومة القيم، وتنويع في الاهتمامات فبهذه التغيرات النوعية يتحرك المجتمع الجامد فيأخذ في الصعود في آفاق جديدة فلا تقاس الاضافات الجزئية بالريادة الفكرية لأن هذه تؤدي إلى إحداث نقلة نوعية في التفكير الإنساني فالريادة الفكرية الأولى لطاليس انجاز عظيم لا تعدله أية ريادة أخرى بل هي ريادة الريادات وصاحبها هو رائد الرواد لذلك فإن الريادة الفكرية لطاليس الملطي هي بحق ريادة عظيمة وباهرة واستثنائية. لقد حققت تطوراً نوعياً هائلاً في مسيرة الحضارة الإنسانية إنها فتح الفتوح فهي ليست ريادة مكملة ولكنها ريادة بادئة وغير مسبوقة فتحت للإنسانية آفاقاً من النظر لم تكن متاحة قبله بل لم يكن أحد يخطر على باله أن يفكر على هذا النحو الاستثنائي الخارق والباهر...
وهنا قد يقال: وماذا عن الرسل عليهم الصلاة والسلام الذين كان لهم من الآثار العظيمة والتأثير الملهم ما لا يبلى مع الزمن عمقاً واتساعاً واستمراراً في النمو والعمق والاتساع؟!
وهنا لابد من أن أوضح بأنني أتحدث عن الريادة البشرية المحضة أما الرسل عليهم الصلاة والسلام فهم ينطلقون من مستوى آخر مختلف كلياً إنهم مُبلغون لرسالات الخالق سبحانه، إنهم قمم استثنائية اصطفاهم الله تعالى وكلفهم بتبليغ رسالاته وهي مهام تختلف عن الجهد الفردي الريادي..
وبهذا المعيار فإن ثورة الفكر الأولى التي أسسها طاليس الملطي تجعله رائداً لرواد الثورات الفكرية لأنه الرائد الأول فهو صاحب البداية وهو المؤسس للاتجاه العقلاني الذي واصل النمو حتى بلغ مستواه الحالي المدهش فليس أصعب من البدايات الريادية الملهمة..
لقد أحدث طاليس بتأسيسه الفلسفة طفرة نوعية في مسيرة العقل وفي تطور الحضارة، وفي اتجاه حركة العلوم والفنون والسياسات.
يقول لويس وولبرت في كتابه (طبيعة العلم): «طاليس بدأ أول تفكير نقدي عميق في طبيعة الكون وهو ما لم يحدث أبداً قبل ذلك» ويقول: «وبدأ التفكير في أن هناك قوانين تحكم العالم وأن هذه القوانين قابلة للتفهم وهو أيضاً ما لم يحدث قبل ذلك وكانت هذه أحد أهم الأفكار في تاريخ البشرية: كانت هذه أول مرة يفكر فيها الإنسان في الكون (تفكيراً عقلانياً متحرراً) كان الايونيون متحررين من أي فكر جامد، وقادرين بذلك على التفكير الجاد العميق إذ لم يكونوا مقيدين ويقول: «وقد كان طاليس أيضاً هو أول من وضع الأسس العلمية للرياضيات إن طاليس حوَّل القياسات والجداول إلى علم، ووضع مبادئ عامة في منتهى الأهمية ولأول مرة مقولات عامة تنطبق على جميع الدوائر وجميع الخطوط وهي مقولات لم تقدم من قبل فلم تعد الرياضيات مجرد أداة لتأدية وظيفة معينة لقد صبحت علماً» ..
ويقول: «بدأ مع طاليس الانتقال إلى تفسيرات مقنعة بنفسها وقابلة للتحليل النقدي وكان هذا تغييراً أساسياً». إن طاليس هو أول حكيم يوناني ومن فكره نهل الحكماء الآخرون فهو أول الحكماء السبعة وكان يرى أن معرفة الحقائق وتمحيصها بالتجربة والمقارنة والتحليل هي أعظم اللذات فلم يكن يهتم بما يهتم به الناس من المناصب والمال والجاه والنفوذ بل كان مُعرضاً حتى عن المُتع المشروعة فلم يتزوج زهداً بملذات الجسد وتخليصاً لنفسه من الانشغال بغير البحث والتفكير والتأمل فلذة المعرفة الممحصة هي عنده أعظم اللذات وأدومها لذلك كان يستغرق في التأمل، ويستمتع وهو يمعن النظر في الكون، وينتشي لمرأى النجوم وهي تتلألأ أو تلك النجوم التي تبعث وميضها الخافت من الفراغ الهائل..
كان يعجب من تهالك الناس على ما هو زائل وكان يسخر من اهتماماتهم العجلى ولما اتهموه بأن معرفته لم تنفعه ولم تخرجه من الفقر أثبت لهم عملياً انه الأقدر على كسب المال لو أراد ذلك لكنه عازف عن المال زاهد بكل ما يتهالك الناس عليه..
كان طاليس يستهدف إقناع الناس بأهمية العلم وقدرتهم على تحصيله فاتخذ كل الوسائل المتاحة آنذاك من أجل توعية المجتمع وشده نحو التعلق بالعلم فلجأ إلى مثال يفهمه كل الناس وله علاقة مباشرة بحياتهم ليؤكد لهم أن العلم يتيح لهم الكثير من المكاسب الدنيوية والنجاح العملي فأظهر لهم عملياً أن العلماء وأهل الفكر أقدر على النجاح حتى في الأمور التجارية والعملية فيذكر أرسطو عن البراعة العملية لطاليس أنه: «عرف بماله من براعة وخبرة أن موسم الزيتون في العام القادم سيكون وفيراً وكان عنده قليل من المال دفعه عرابين لاستئجار جميع معاصر الزيتون في خيوس وملطية بثمن بخس ولم ينافسه أحد فلما جاء وقت الثمار وأقبل جميع المزارعين على المعاصر دفعة واحدة أجرها عليهم بما يشاء لعدم وجود منافس فجمع مالاً كثيراً وهكذا أثبت طاليس للناس كيف يمكن للفلاسفة أن يغتنوا بسهولة إذا أرادوا لكن مطامعهم من نوع آخر فهم يحبون المعرفة للمعرفة ذاتها» وبذلك خلب طاليس ألباب الناس فهو أينما وجه اهتمامه أظهر براعة خارقة مما أقنع اليونانيين بأن المعرفة هي الطريق الصحيح للنجاح والإصلاح والسعادة