إن لم يكن الدين منظومة أخلاقية متكاملة تشمل جميع مفاصل الحياة: عملية، علمية، تجارية، اجتماعية وغيرها، لتنظمها وتشذبها وترسم لها منهجا واضحا لا يجانب الصواب ولا يدفع بالبشرية للظلم والطغيان.. إن لم يكن كذلك ما الفارق بين الدين وأي توجه ثقافي أو فلسفي آخر?
المؤمنون بالأديان يدركون أن بين أيديهم أفضل منهج حياتي ممكن. متمثلا بالكتب السماوية وأكملها على الإطلاق هو «القرآن» الصالح لكل زمان ومكان. منهجٌ يُخرج لنا أفضل صيغة للكائن على جميع الأصعدة والمعايير. فكيف إذن حلّت صورة المتعصب الإرهابي المعبأ بكراهية الآخر والاعتداء عليه أو حتى قتله إن لزم الأمر، مكان المُتدين النزيه المُتعقل الذي تكاملت نقائصه وصُقلت نزواته?
هذا ما أسميّهِ تفصيل التعاليم الدينية السماوية بمقاس بشريتنا الناقصة النزّاعة للعداء والوحشية والأنانية. والالتفاف على النصوص القرآنية لنفرغ طاقاتنا السلبية والعدائية تحت غطاء شرعي.. وإخفاء سوادنا تحت غطاء الدين ناصع البياض.
الأخلاق -مثلا- باعتبارها قيمة سامية لدى كافة المذاهب الفكرية والدينية وحتى لدى اللادينين أيضا التسامح والإخلاص والوفاء وإغاثة الملهوف في الجانب الإيجابي تحت بند «مرغوب». ونكث الوعود والغش والانتقام وهتك الكرامات وغيرها تحت بند «ممنوع». تلك القيم لم يبتكرها الإسلام إنما جاء ليتممها ويضعها على المسار الصحيح. قال الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق». فما بين اليهودية التي أخذت باليهود للنرجسية العالية وتحقير أي جنس ومذهب آخر, ليكونوا هم شعب الله المختار. وبين المسيحية التي سحقت كرامة الإنسان تحت مبدأ التسامح وشطحت كثيرا ناحية اليمين. جاء الإسلام ليكون في المنتصف ما بين نرجسية اليهود وانسحاق المسيحيين. ليهبنا أفضل أنموذج أخلاقي ممكن للإنسان. لكن كان لا بد للوحشية والنزق والعدوانية البشرية أن تجد لها متنفسنا ولو بعد حين. لذلك خرجت الشرور من جديد من بين ثنايا الخير, وأطل الشيطان برأسه بين صفوف الملائكة.. بعد أن بدأ بعض المجددين وأصحاب النهضات الدعوية بتحوير بعض التعاليم المحمدية البيضاء لتناسب سوادهم.
لمزيد من التوضيح:
«مبدأ الولاء والبراء» الذي كان غطاء شرعيا ممتازا للنعرة والعصبية الجاهلية, التي عارضها الإسلام. استخدمه بعض المتطرفين «سنة وشيعة» لتصنيف أخوة الدين ونظراء الخلق إلى عدو وصديق. ثم يضع لنا خطة للتعامل مع الآخر المُختلف, فبدأت تتخذ «الأخلاق» منحيين: أحدهما لمن يشبهنا ويتفق معنا. والآخر للمختلف عنا. بحيث إن المودة والتسامح والحلم والمساندة وغيرها تكون لأفراد الطائفة الواحدة بينما يشوب تعامله مع الآخر المختلف علامة استفهام كبيرة!
حيث يتعامل مع الآخر المختلف بالكراهية والغلظة والتهجم والشتم والإهانة. وبهذا يكون قد نفّس عن طاقاته السلبية وجاهليته وتعصباته بطريقة شرعية وآمنة. ودون أن يدخل في صراع اعتلاجات الضمير. هذا ما حدا بالبعض لقتل السفراء وحرق محلات كاسيتات الأغاني وتحطيم مطاعم الفاست فود الأمريكية أو الصراعات القائمة بين أبناء الدين الواحد فتجده يشتم ويقذع ويفجر في الخصومة. يعملون كل ذاك بقلب راضٍ، بل وينتظرون من الله المكافأة على إساءاتهم وتعدياتهم, معتقدين بهذا أنهم أدّوا تكليفهم الشرعي على خير وجه!..
هل هذا هو فحوى الولاء والبراء?
وطبق هذا المنهج في تحوير وتحريف تطبيق التعاليم الإلهية -بما يوافق الشرور بداخلهم- على بقية المسارات:
) الغضب لله وتغيير المنكر
) الذب عن الدين والرسول والرموز الدينية والمقدسات.
« لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من .......»
«من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه» وغيرها.. وغيرها. لكني دعوني أتوقف قليلا في جزئية تغيير المنكر: إن الطريقة التي استغل بها هؤلاء منهجية التعامل مع المُنكر هو إقحام العُنف في الأمر. رغم أن الحديث لم يأخذ بُعداً إرهابياً أو عدوانياً.. لكننا نجد في الشخصية المتطرفة جانبا شرساً عدوانياً لا يتناسب مع الشخصية الكاملة. هل فهم هؤلاء المتلبسين للدين عبارة «بيده» أن أكون عنيفا همجيا وقاتلا؟ وعبارة «بلسانه» أنه يحق لك أن تكون بذيئا شتاما سبابا هجوميا منحدرا باسم الغضب لله وتغيير المنكر?
ما كل هذا الزيغ باسم الدين يا هؤلاء?
إن هذا التحوير الهائل في الشخصية الدينية ليست صنيعة رجل واحد أو بلاد واحدة. فالمتطرفون ليس لهم انتماء إلا لطوائفهم فقط: شيعة, صوفية, سنة, زيدية.. واختلف المسمى والتطرف واحد!
على كل حال تبقى «أخوة الدين ونظراء الإنسانية» حُلم لم يطبق للآن!
طبتم!
كوثر الأربش
نقلا عن جريدة الجزيرة