شوقي بزيع
يصر الكثير من الكتاب والمتعاطين بالشأن الثقافي في سائر بلاد العرب على التعامل مع النثر بوصفه «وصيفة» للشعر أو إبداعا من الدرجة الثانية، في أحسن الأحوال. ولعل مثل هذه الرؤية القاصرة لم تأت من فراغ كامل، بل هي تستند إلى الدور الخطير والحساس الذي أنيط بالشعراء في مراحل تاريخية مبكرة، حيث كانت المواجهات الضارية بين القبائل تحتاج إلى شحن عاطفي استثنائي وإلى تناظرات لغوية وإيقاعية قابلة للحفظ من جيل إلى جيل. واللافت في هذا السياق هو لجوء المتحاربين في اللحظة الانفعالية القصوى التي تسبق الاشتباك الجسدي إلى استخدام الشعر للتعبير عن عواطفهم المتباينة وللنيل من معنويات العدو، بما يشبه الحرب الإعلامية والنفسية، في لغة اليوم.
على أن غلبة الشعر على النثر في بعض المراحل لم تكن لتضع النثر في مرتبة دونية أو تقلل من دوره الريادي، وبخاصة في مراحل تأسيس الدولة الجامعة أو استقرارها، حيث النثر وحده يستطيع القيام بمهام الفكر والفقه والمنطق والسرد والتحليل النقدي والجدل الفلسفي... وما إلى ذلك. وفي كتابات ابن المقفع والجاحظ وأبي حيان التوحيدي وابن عربي ما يرقى إلى رتبة الشعر، ويتجاوزه أحيانا في العمق والبلاغة والتخييل. ولا حاجة للتذكير قبل هذا وذاك، بأن لغة التنزيل نفسها لم تكن لغة الشعر، بل لغة النثر بطواعيتها المذهلة وقابليتها للإفصاح عن شتى الرؤى والأفكار.
لا حاجة إذا بجميع المشتغلين بالكتابة للتهافت على حمل لقب «شاعر» أو على التعامل مع النثر وكأنه «مرض مخجل»، وفق ما يقوله الشاعر الألماني هلدرلن عن الحب. فالنثر في شقه الإبداعي يمتلك من المرونة وحرية المناورة القدرة على استثمار المفردات بما لا قبل للشعر بامتلاكه. إنه اللغة في تخففها من أوزار الأوزان والقوافي وموجبات الإيقاع والتقطير الكلامي. وحيث يجد الشعر نفسه مثقلا بهذه الموجبات القاسية ومضطرا لتحاشي الكثير من الصيغ والمفردات، يتقدم النثر بخفة الماء ورشاقته ليؤسس على مساحة القاموس مملكة الجمال الحر والتنوع المعرفي. وهو ــ في الوقت ذاته ــ يستطيع أن يوائم بين التخييل الشعري وبين لغات التحليل والبرهنة العقلية والبوح الوجداني الذي لا ترهقه القيود.