الشيخ عبدالرحمن الخميسي
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول لله صلى الله عليه وسلم: «إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله» [رواه البخاري ومسلم].
الرفق: هو لين الجانب وهو ضد العنف والشدة والغلظة وهو سبب كل خير، ودعامة كل فضيلة، وزينة كل عمل، وصلاح كل أمر، فإنه لا يكون في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهو مطلوب في كل أمر من الأمور الدنيوية والأخروية حتى يأخذ ذلك الأمر جانب القصد والاعتدال، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله يثيب على الرفق أعظم ما يثيب على غيره، ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على سواه»، وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الخير كل الخير في الرفق فقال كما في صحيح مسلم وأبي داود عن جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه: «من يحرم الرفق يحرم الخير كله» لذلك كان الرفق من العوامل الأساسية في انتشار الإسلام ودخول الناس فيه أفواجاً، وذلك لما يتميز به من اليسر والسهولة في نظمه وتشريعه ودعوته وجميع ما جاء به فإن الله تعالى يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] وقال: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} [البقرة:185] وقال: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقال صلى الله عليه وسلم: «بعثت بالحنيفية السمحة» [أحمد: (5/266) (22345)]. وكذلك لما يتميز به الرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاء بهذا الدين من صفات الرحمة والرأفة والحلم والرفق وسائر الصفات الحميدة حتى قال الله تعالى فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] وقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159] ثم قال لنا سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
ومن الأمثلة على رفقه عليه الصلاة والسلام نذكر منها ما يلي:
1) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «بال أعرابي في المسجد فقام الناس إليه ليقعوا فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوه وأريقوا على بوله سجلاً من ماء أو ذنوباً من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين» [رواه البخاري].
2) عن أنس رضي الله عنه قال: «كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه بردائه جذبة شديدة، فنظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أثر بها حاشية الرداء من شدة جذبته ثم قال: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء» [رواه البخاري ومسلم].
3) روى مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: «بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلى فجعلوا يضربون بأيدهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن..».
وكذلك لما يتميز به الصحابة رضوان الله عليهم الذين بلغوا هذا الدين ونشروه من صفات الرفق والحلم وغير ذلك من الصفات الحميدة وأمثلتهم التي ضربوا للناس أروعها وأعظمها كثيرة جداً، فقد كانوا الواسطة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين الناس في تبليغ هذا الدين وتوضيحه ولو كانوا على خلاف تلك الصفات العظيمة لما قبل منهم الدين أحد، والرفق يكون بالنفس وبالغير وبالحيوان وفي القول والفعل.
أولاً: فأما الرفق بالنفس:
فهو أن لا تكلفها من العبادة ما لا تطيق ولا تحرم عليها من المباح ما ترغب، فإن في إرغامها على ذلك تعذيب لها وغلظة عليها، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن التكلف ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن التنطع والتشدد، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم للنفر الذين جاءوا يستفسرون عن عبادته فتقالوها، «فقال أحدهم بأنه يقوم ولا ينام، وقال آخر بأنه يصوم ولا يفطر، وقال آخر بأنه لا يتزوج، وقال آخر بأنه لا يأكل اللحم، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: أما أنا فأقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني..» [البخاري: (5/1949) (4776)، مسلم: (2/1020) (1401)] ودخل على عبدالله بن عمرو فقال: «ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار؟ فقال: بلى، قال: لا تفعل، قم ونم، وصم وأفطر، فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً...» [البخاري: (2/697) (1874)، مسلم: (2/812) (1159)] وفي قصة سلمان وأبي الدرداء رضي الله عنهما: «إن لربك عليك حقاً، وإن لجسمك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه، فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: صدق سلمان» [البخاري: (2/694) (1867)، الترمذي: (4/608) (2413)].
ثانياً: أما الرفق بالغير فإما أن يكون قريباً أو لا:
فأما القريب فهم الأبناء والآباء والزوجات، وبقية ذوي القربى:
1) فأما الرفق بالأبناء: فهو رحمتهم والشفقة عليهم وتعليمهم القرآن والأدب وممازحتهم وملاعبتهم ومضاحكتهم في غير مهزأة ولا منقصة، فإن ذلك هو هدي الرسول صلى الله عليه وسلم مع أبنائه وأحفاده وأبناء أصحابه، فقد كان يقبل ابني بنته فاطمة الحسن والحسين حتى أنكر عليه الأقرع بن حابس وقال له: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «من لا يرحم لا يرحم» [البخاري: (5/2235) (5651)، مسلم: (4/1808) (2318)]، وكان عليه الصلاة والسلام يحمل أمامة بنت أبي العاص وهي بنت بنته زينب يحملها على ظهره وهو يصلي فإذا سجد وضعها وإذا قام أخذها، وكان يفرج بين رجليه وهو راكع للحسن أو الحسين، وكان مرة يخطب فجاء الحسن والحسين يمشيان ويعثران بين الصفوف فقطع عليه الصلاة والسلام خطبته ونزل فحملهما ثم عاد إلى خطبته، وقال: «صدق الله إن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ..} [التغابن:15]. وكان لأنس بن مالك أخ صغير يلاعبه الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول له: «يا أبا عمير ما فعل النغير» [البخاري: (5/2291) (5850)، مسلم: (3/1692) (2150)] وقال عليه الصلاة والسلام: «ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا» [الترمذي: (4/321) (1919)، أحمد: (2/207) (6937)] ولا ينبغي للأب أن يهزأ أبناءه إذا أخطئوا أمام الآخرين؛ فإن ذلك يولد فيهم الحقد والعي والعقوق بل يأخذهم على انفراد ويبين لهم الخطأ الذي وقعوا فيه بأسلوب ليس في غير شدة ولا عنف، فإذا ما تمادى الابن في الخطأ فلا بأس أن يضربه في غير وجهه ضرباً غير مبرح في خلاء من الناس، ولا يقبح ولا يسب ولا يلعن فإن ذلك لا يجوز، وأيضاً فإن الابن ينشأ على خلق أبيه غالباً فتكون العاقبة والنتيجة وخيمة حيث ينشأ هذا الابن بذيئاً فاحشاً عاقاً سيئ الخلق.
2) وأما الرفق بالآباء: فهو ملاطفتهم والإحسان إليهم وعدم عصيانهم في المعروف خصوصاً في حالة الكبر قال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23].
3) وأما الرفق بالزوجات: فهو معاشرتهم بالإحسان إذ أنهن أسيرات عند الأزواج ومعاملتهن بالمعروف وعدم تكليفهن فوق طاقتهن، وأن يصبر عليها إن هي أخطأت في نفسها أو عليه فإنهن ناقصات عقل ودين، وليس ثم امرأة كاملة أبداً، ويكفي أن تكون ذات دين وخلق، وأن يشاركها في مهنة البيت في حال فراغه فإن ذلك كان حال الرسول صلى الله عليه وسلم مع أهله يكون في مهنتهم فإذا ما نودي للصلاة فزع إليها كأنه لا يعرفهم.
ويجب على الزوج إذا غضب أن يكون رفيقاً في معاقبته لها فلا يسب ولا يقبح ولا يلعن ولا يضرب، فإن من يفعل ذلك ليس خيراً كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيمن يضرب زوجته: «ليس أولئك بخياركم» [أبو داود: (1/652) (2146)]، ولا بأس أن يسبها سباً مشروعاً مثل: حلقى، وعقرى، ولكع، وياعاصية، ونحو ذلك، فإن حسن الخلق والعشرة الحسنة مع الزوجة من كمال الإيمان فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وألطفهم بأهله» [الترمذي: (5/9) (2612)، الحاكم: (1/119) (173)].
وروى ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي ».
4) وأما الرفق بباقي الأقرباء كالأعمام والعمات وذوي الأرحام وأبنائهم: فالأصل فيه قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَالجَارِ ذِي القُرْبَى وَالجَارِ الجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء:36]. ولأن لهؤلاء حقين: حق القرابة وحق الإسلام؛ ولأن الرفق مطلوب في كل شيء ومع كل الناس إلا من استثني منهم فكان مع الأقربين أعظم تأكيداً ووجوباً.
5) وأما الرفق بغير القريب وهم بقية الناس: فالأصل فيه أيضاً قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَالجَارِ ذِي القُرْبَى وَالجَارِ الجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}. وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله» [البخاري: (5/2242) (5678)، مسلم: (4/1706) (2165)]، وقوله عليه الصلاة والسلام كما في سنن الترمذي: «الراحمون يرحمهم الله تعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» [أبو داود: (2/703) (4941)]. والرفق بالناس معناه البشاشة في وجوههم وحسن معاملتهم والصفح عن مسيئهم والحلم عن جاهلهم والصبر على أذاهم وعند تعليمهم وخفض الجناح لهم، وعدم الاعتداء عند الاقتصاص منهم، وحسن الاقتصاص والقضاء والاقتضاء منهم إلى غير ذلك قال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215] وقال: {وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]. والأمثلة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة جداً قد ذكرنا بعضاً منها أنفاً.
ثالثاً: الرفق بالحيوان:
كما قلت: إن الرفق أحد العوامل الأساسية التي دعا إليها الإسلام ونادى بها بل وأمر أتباعه أن يلتزموا بها وذلك أكثر من أربعة عشر قرناً، ومن الرفق الذي نادى به الإسلام أيضاً الرفق بالحيوان ولم يقتصر على ذلك بل رتب عليه الأجر والثواب والمغفرة، ورتب على ضده العذاب والنكال فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئراً فنزل فيها فشرب ثم خرج، وإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ماءً ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب فشكر الله تعالى له فغفر له، قالوا: يا رسول الله! وإن لنا في البهائم لأجراً قال: في كل كبد رطبة أجر» [البخاري: (2/833) (2234)، مسلم: (4/1761) (2244)].
وفي رواية: «أن امرأة بغياً رأت كلباً في يوم حار يطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش فنزعت له موقها فغفر لها به» [مسلم: (4/1761) (2245)]، وفي المقابل عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض» [البخاري: (2/834) (2236)، مسلم: (4/2021) (2242)]، فأين نجد هذا في جمعيات الرفق بالحيوان المنتشرة في العالم؟
والرفق لا يكون إلا بحلم، والحلم كما يقال سيد الأخلاق، بل به يسود المرء ويشرف في قومه، وبضده يسقط من أعين الناس ويصغر في نظرهم فلا يزال محتقراً مهاناً ذليلاً لا قيمة له ولا وزن.
وقد قيل للأحنف: ممن تعلمت الحلم؟ قال: من قيس بن عاصم المنقري كان يوماً جالساً في قومه فجاء أبناؤه بأخ لهم مقتول قد قتله ابن عم له قد أوثقوه، فوالله ما حل حبوته وما زاد أن التفت إلى ابن أخيه فقال له: بئس ما فعلت، ثم قال لأبنائه: اذهبوا فواروا أخاكم وسوقوا لأمه مائة من الإبل دية ابنها فإنها غريبة بيننا، وقال معاوية لعرابة بن أوس: بما سدت قومك يا عرابة؟ قال: يا أمير المؤمنين كنت أحلم عن جاهلهم، وأعطي سائلهم، وأسعى في حوائجهم، فمن فعل فعلي فهو مثلي ومن جاوزني فهو أفضل مني ومن قصر عني فأنا خير منه، وقال رجل لعمر بن عبدالعزيز: أشهد أنك من الفاسقين، فقال: ليس تقبل شهادتك، ولذلك يقال: "ثلاثة لا يعرفون إلا عند ثلاثة: لا يعرف الحليم إلا عند الغضب ولا الشجاع إلا عند الحرب ولا الأخ إلا عند الحاجة إليه"، ولما لهذه الصفة من الخير العظيم اتصف الله بها وأحب من يتصف بها فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأشج بني عبد القيس: «إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله الحلم والأناة» [مسلم: (1/46) (17)].
أثر الرفق والحلم في الدعوة:
كما قلت سابقاً: إن الرفق هو أحد العوامل الأساسية في انتشار الإسلام وإقبال الناس عليه وذلك لما يتصف به من اليسر والسهولة، وكذلك لما يتصف به رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من صفات الرفق والحلم والصبر والحكمة وغير ذلك من الصفات الحميدة، وما قدمته من أمثلة على حلم الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم دليل على ذلك.
واعلم أن الداعي إلى الله تعالى لا بد وأن تتمثل فيه بعض الصفات التي تؤهله لأن يسمع الناس منه ويقبلوا دعوته من تلك الصفات التي تؤهله لأن يسمع الناس منه ويقبلوا دعوته والتي يجب أن يتحلى بها: الرفق والحلم، بل إن ذلك شرطين أساسيين لا يجوز للداعي إلى الله تعالى أن يتخلى عنهما؛ ذلك أن كل دعوة لابد وأن يوجد في طريقها بعض العقبات لا يمكن للداعي أن يزيحها من طريقه إلا إذا استعمل الرفق والحلم، وذلك كما حصل للرسول صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية فإن قريشاً صدوه عن البيت الحرام ثم عقدوا معه صلحاً ليس في ظاهره مصلحة للمسلمين البتة، ومع ذلك كله فقد كان عليه الصلاة والسلام رفيقاً حليماً لا يسألوه شيئاً إلا أعطاهم؛ لأنه كان ينظر إلى الأفق البعيد إلى المصالح العظيمة التي سيجنيها من وراء هذا الصلح، ويوم فتح مكة وقف عليه الصلاة والسلام وهو ممسك بعضادتي باب الكعبة وقريش تحته فقال لهم: ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً أخ كريم وابن أخ كريم، فقال لهم: أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: «لا تثريب عليكم اليوم» اذهبوا فأنتم الطلقاء، فماذا كانت النتيجة؟ هو دخول الناس في دين الله أفواجاًً، حتى الذين كانت لهم اليد الطولى في سبه صلى الله عليه وسلم والاستهزاء به، جاءوا إليه لعلمهم بسماحته ورحمته وعفوه فقبل منهم وشملهم حلمه وخيره وبره، وقبل ذلك يوم أن أخرج من مكة المكرمة فذهب إلى الطائف لعله يجد من ينصره فعرض نفسه على عمرو بن عبدياليل بن كلال وإخوته فاستهزءوا به ولم يكتفوا بذلك بل أغروا صبيانهم أن يرموه بالحجارة، فكان لا يرفع رجلاً ولا يضع الأخرى إلا وقع فيه حجر حتى أدموا قدميه الشريفتين، فما استكان ولا جزع ولا ضعف ولا قابل الإساءة بالإساءة بل رفع يديه إلى السماء ودعا بقوله: «اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت ربي ورب المستضعفين إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي إلا أن عافيتك أوسع لي».
وهنا جاء النصر ونزل الفرج: {..فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5-6]. نزل جبريل ومعه ملك الجبال عليهما السلام فقال جبريل: يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا به عليك وهذا ملك الجبال فمره بما شئت، فرد ملك الجبال عليه السلام وقال: يا محمد! إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت، فقال عليه الصلاة والسلام: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً، فرفق بهم عليه الصلاة والسلام بعد أن عذبوه واستهزءوا به وأخرجوه من بيته وبلده ظلماً وعدواناً، فجنى عليه الصلاة والسلام ثمار هذا الرفق والحلم يوم فتح مكة وقبل أن يموت حيث دانت الجزيرة كلها بالإسلام، ولو ذهبنا نستعرض حياة الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوية وما ضرب للناس فيها من أمثلة رائعة لاحتاج إلى ذلك منا إلى مجلدات ضخمة، ولكن ما سقناه فيه الكفاية والعظة والعبرة لمن أراد أن ينهج نهجه عليه الصلاة والسلام في الدعوة.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
--------------
المصدر/ موقع منبر علماء اليمن