وقروا .. كباركم ..

د. محمد بن سعود المسعود
مروع ومخيف هذا الذي يحدث في حاضرة الفكر والثقافة في المملكة السعودية؛ أن استطال اللسان والتهكم على قامة سامقة رفيعة مثل المفكر الأديب الدكتور عبد الله الغذامي! كأننا ليس فينا كبير حقه التوقير، ولا رفيع يجل عن التهوين، ولا تاريخ يراد منا أن نملي عليه رجالنا الكبار، ومواقفنا الكبيرة ونفوسنا المتعالية!

الغذامي .. أيها السعوديون .. روح وطنية فكرية متوثبة متعالية، قريبة متباعدة .. حاضرة تتعمد الغياب في أجمل أوقاته .. وتتعمد الحضور إن شح على اليباس المطر!

لم أكن أشعر بالقنوط أكثر مما شعرت به الآن .. وأنا أتلظى غيرة على المفكر المبدع الدكتور عبد الله الغذامي، الذي أشهد الله الذي رفع السماء دون عمد ترونها، لم أنل شرف رؤيته، ولم أنل شرف معرفته عن قرب، بقدر ما تنزلت منازل فكره، وصعدت معه بصعوده، ووقفت في وقفاته، وشعرت بالخشوع عند لحظات تأمله، وصناعة الفكر الرصين منه!

مفكر فيه طبع الفلاسفة العظماء الصادقين مع ضمائرهم .. يتبدل ويتغير فيما يراه صوابا .. ويميل إلى الحق كما تميل البوصلة إلى الشمال دائما، هي طبيعة الفكر الناضج الرصين الصادق .. نهر يجري ويتدفق ويطهر نفسه بنفسه في كل حين.

الغذامي هو الثابت في أصل المعرفة وفي وعيها .. والمتغير هو تيارات الهواء وقليل من أحمال التربة، التي تتصاعد بحركة الماء وجريانه! رجل تشعر به حين يتكلم أنه قادم من أمكنة عميقة متباعدة .. وجميلة .. وشديدة النقاء .. وشديدة الطهر!

الغذامي .. لمن يحبه .. والغذامي لمن يكرهه .. لمن يتفق معه .. ولمن يختلف معه .. بات علما من أعلام الفكر السعودي المعاصر، وإن بدا كالعشب الأخضر متواضعا وقريبا من كل أحد.

خرج من - بيئة - اللسانيات، والكلام المرسل مع كل ريح ..! ليقرأ أكثر من عمره عشرات المرات، ليتعلم كثيرا ويقول قليلا! إلا أنه عميق وحكيم وجميل .. وقليلا ما تلتقي الحكمة والعمق والجمال كما هي شاخصة حاضرة بين يدي هذا الرفيع العميق الجميل عبد الله الغذامي.

ربما لكونه فتح الله له مغاليق الفهم حدثا صبيا، لكونه خرج من طهر الذات، والانغلاق على تكاملها بالمعرفة الناضجة .. صبور على بذورها واخضرار غصنها الأول .. صبور على التشكل .. والتأمل والنظر في الجهات الأربع ..! صبور في الغور والسبر إلى أعماق الصفاء البعيدة!

حتى خرج علينا وفي يده صحائف من جمال، فيها إثارة من علمه، ومعارفه وعصارة عزلة المتعلم البصير قبسا من نور .. وقبسا من هدى.

هذا هو الغذامي للمملكة العربية السعودية .. ظلال من النور ينبسط في العالم العربي كله، يرفعنا إلى ما نستحق من التمثيل والحضور والتشريف.

لم أجده متكلما .. إلا وهو يزيد في كمية وعي الذات .. بصفاتها .. ويقربها من صورتها .. ومن حقيقتها أكثر!

تمنيتُ أن نوقر الكبار منا .. فهم صورة من أجمل صور الجمال الفكري والعلمي والمعرفي للمملكة العربية السعودية. إن زلة العالم تُقال وتُغفر.. وإن عتب ذوي المروءة سر، وقول لين، ورحمة ومودة، وكظم غيظ، والعفو الجميل في مورد الإساءة.. والله يحب المحسنين .. وعتاب الجاهل شتيمة! وغضب .. وتباعد عن لياقة التهذيب .. وحرمة العلم وأهله .. والعلماء عظيم حقهم .. ومنازل تقديرهم.

إن استطال اللسان على الغذامي فلن يبق فينا كبير يسلم من استطالة السوء فيه!

لم يعد لنا كبير لم نصغره في أعين الناس، ولم يعد لنا كبير لم نرمه بحجر، ولم يعد لنا طاهر إلا ورفعنا له صليبا نعلقه عليه! ولم يعد لنا بناء لم نهدم منه أجمل ما فيه! لم يعد فينا كبير نحترم شيبته الطاهرة في العلم والتعليم وصيانة النفس عن ابتذالها في طلب الرضا.

لم يعد فينا من إذا تكلم - علمنا أنفسنا - أدب الصمت - حرمة للمربي، ووفاء لحق الأستاذ والمعلم الذي كان عن قريب كاد أن يكون رسولا ..

كل قول شاهد وشهيد على صاحبه .. وويل لحامل قلم .. يزاحم العلوج من الرجال في سرعة غضبهم، وقلة الحلم فيهم .. وخوض معارك شخصية، ما إن تنتهي معركة حتى يتحضر إلى أخرى وفي جميعها .. الغالب فيها .. مغلوب ..! والمنتصر فيها موسوم بخزي الأدباء لجليل العفة في نفوسهم وطهارة قلوبهم ومداد أقلامهم البتول النقية.

وقروا كباركم .. يوقركم صغاركم أيها الأدباء والكتاب.