كلمة الاقتصادية
من المؤكد أن الإنفاق على البنية الأساسية ومرافق الخدمات يستنفد قدراً عالياً من التمويل والجهد وهما ضروريان للقطاع الإنتاجي، فلا تنمية دون توافرهما.. غير أن ذلك يفرض تلقائياً أهمية التفكير في إدامة تمويل هذه الخدمات وهذه البنية، والاعتماد على موارد الدولة النفطية سيشكل عبئاً يتفاقم ثقله مع الأيام للصيانة والتوسع أيضاً.
تقول بيانات خطة التنمية التاسعة إن عدد المصانع بلغ نحو 4167 مصنعاً، وهو رقم جيد من حيث الكم، لكن المكونات النوعية لهذا الرقم، أو نوعية الصناعة التي يديرها قطاع الصناعة، تشير إلى أن الأغلبية العظمى منها صناعات استهلاكية وحقيقية لا تمثل قيمة اقتصادية فعلية مضافة يمكن اعتبارها مرتكزاً ومصدراً لتمويل التنمية وتطويرها وامتلاك اقتصاد قوي إنتاجي.
وإذا كانت وزارة التجارة والصناعة قد أنجزت خطتها الوطنية للتصنيع، وإذا كانت مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية قد أنجزت السياسة الوطنية للعلوم والتقنية، فهذا يعني أن هاتين الجهتين معنيتان بمتابعة تنفيذ ما قامتا بإعداده.. هذا من الناحية الإجرائية، أما من الناحية النوعية، أو الوزن النوعي للخطة والسياسة ومكوناتهما، فهما من ناحية لا بد أن يصبا في برنامج وطني للصناعة والتقنية متضمناً المجالات والأنشطة ذات القدرة على إحداث التحول في أهداف التنمية نحو قطاع إنتاجي يترجم ما طال الحديث عنه من (تنويع القاعدة الاقتصادية)، فالصناعة والتقنية هما التنويع ولا شيء غير ذلك.
إن وزارة التجارة والصناعة ومدينة الملك عبد العزيز بالتنسيق مع وزارة الاقتصاد والتخطيط، مدعوة إلى بلورة برنامج الصناعة والتقنية الوطني بأفق طموح جسور خلاق يغادر المألوف المعروف من الصناعات والتقنيات إلى المبتكر الجديد منها مما يملك القدرة على إنتاج اقتصاد متجدد متطور يتعاظم في مخرجاته سلعاً وخبرة ودخلاً.. هذا يستدعي طموحاً لا يرتهن نفسه لما في العالم وإنما لما هو الأميز في العالم وبجانبه الجديد الخاص، فمثل هذا الأفق الطامح هو ما يكفل الرسوخ في سباق المنافسة الشرسة لتحقيق المكانة الاقتصادية الكفؤة المالكة لطاقة استمرارها.. خصوصاً وبلادنا تتمتع بموارد طبيعية لها مميزاتها النسبية وبموقع جغرافي واستقرار مميزين يشكلان ضمانة هذا الطموح والسعي لمنافسة واثقة.
إن من الضروري إعادة النظر فيما صاغته وزارة التجارة والصناعة وما صاغته مدينة الملك عبد العزيز في ضوء هذا الطموح وعدم الركون إلى ما تقرر فيهما، خصوصا واتجاهات التصنيع والتقانة تشق اليوم دروباً لم تخطر على البال، وما لم نكن في قلب هذا التحول المذهل في صناعة وتقنية العصر، فسوف نبدّد مالاً وجهداً في مصانع وتقنيات غير قابلة للصمود في أسواق العالم، وبالتالي لا تكون عوائدها ومخرجاتها المادية والمعرفية مما يحقق هدف تنويع القاعدة الاقتصادية الذي يفترض أن يكون المصدر غير الناضب والثري لتنمية مستدامة.
هذا كله يعني أن على الدولة أن تكون هي المبادرة للنهوض بهذه المهمة للطبيعة التمويلية الهائلة التي يتطلبها هذا البرنامج، وهي قد قامت بمبادرات نوعية مؤثرة تعد اليوم من علامات امتياز تنميتنا، مثل مصانع الجبيل وينبع والمدن الاقتصادية التي حملت أفق هذا الطموح لكنها تستدعي مراجعة تزج بها في سياق التصنيع والتقنية على النحو المأمول.. وحتما مبادرة الدولة للنهوض بهذا البرنامج لتحويل مقولة تنويع القاعدة الاقتصادية إلى حقيقة شاهقة زاخرة بالعمل والإنتاج، لن تتم بمعزل عن إدماج القطاع الخاص للمشاركة في أحداث هذا التحول من خلال الغرف التجارية والهيئة العامة للاستثمار وأي روابط أخرى تحيل البرنامج إلى أصول إنتاجية لا تصون أو تمول التنمية المستدامة فحسب، وإنما تطمئن بها على مستقبل يجعل زاهر الحاضر يزداد تألقاً.