نجيب الزامل
.. سألته: ما سبب أن المنطقة التي خدمت فيها يوما ما زال يذكرك ناسُها ويمحضون لك المحبة بعد أن غادرتها بسنوات طوال؟ فيرد بابتسامة التواضع الحقيقي الآسرة: لأني كنت .. مجرد موظف!
برأيي أن الناس مناجم في داخلهم. بعضهم يتركون مناجمهم مهملة بلا تنقيب وبحث فيعيشون بلا اكتراث طافين على السطح يحملهم تيار ليسلمهم لتيّار آخر بلا إرادة وبلا صفة، وبلا مقاومة. وبعض الناس يبحثون في مناجمهم في السطح القريب فلا يتعمقون فيتراكم غبار وسخَم السطح ثم يركنون إلى ذلك فيثقلون مكانهم وسط مجرى النهر يعترضون طريق من يريدون أن يسيروا في الاتجاه الصحيح، ثم يترسبون في القاع ويبقون في القاع.. وبعضهم يصرون أن يبحثوا وينقبوا في مناجم أنفسهم حتى يصلوا لجواهرهم اللامعة بالنقاء والجمال، فيتجلون في معارض الحياة كالجواهر لا ينطفئ لها بريق، ولا يقلق لها جمال.. ويتهافت عليها الناسُ شغفا وإعجابا.
ومن النوعية الأخيرة عرفت هذا الشخصَ الذي عثر مبكرا على جوهرته الذاتية الداخلية، فعاش طول عمره جوهرة بين جواهر الناس.. وما زال، بل مثل أعتق جواهر الأرض وأنقاها: الألماس فهو براق الشخصية، وهّاج الحضور، قاطع الرأي، ومن أطيب ما تتلقاه النفسُ في لطف الطلّة، وأصالة الأخلاق.. ورفعة المبادئ، هو ألماسة منذ عرفناه في الطفولة، وهو ألماسة لم يتغير إلى اليوم. هكذا طبعُ الماس؛ الثبات!
عرفته حين جاءنا شابا يافعا، ونحن أطفال، من عنيزة بالقصيم للمنطقة الشرقية، وكنا نظن أننا سنلاقي شخصا ساذجا، نحن سكان الضاحية التي تجمع أحدث وسائل المدَنية بجوار شركة النفط الكبرى، وكنا نعد أنفسنا لبرامج العطلة الصيفية.. وحين جاء تغير البرنامجُ بالكامل.. صار هو وحده البرنامج!
جاء حيِّيا، راقيا، ناصعَ الشخصية، جرَسي الحديث، حلو الطباع.. وتعلمت منه في تلك الصيفية كيف أنتقلُ من حال إلى حال.. علمني أن أقرأ بالتراث والثقافة العربية، وأن أكتشف نفسي، وقال لي ذات ليلة انظر إلى النجوم وتأمل الأبد، وسترتاح مهما كان حجم الضغوط.. وعندما تضغط عليّ الظروف، ما زلت أنظر إلى النجوم.. وأتأمل الأبد.
علمني أن من محبة الله أن نحب بعضنا، أيا كنا، ما دمنا نحمل الصفة الإنسانية. علمني كيف أرتبط بالناس وكيف يرتبطون بي. شيءٌ واحد لم أحسن أن أتعلمه منه، وهو أنه لا ينسى معروفا مهما تضاءل المعروف، ومهما طال الزمن، ومهما بعدت المسافة.. مهما كان المعروف ضئيلا يبقى جبلا من الامتنان يحمله معه كل عمره. قبل أيام فقط قال لأخي ولي: إنه لن ينسى فضل والدتي عليه طيلة عمره، وإنه يستحي من مواجهتنا من فرط حرجه وجحوده (!)، ومن عِظـَم المعروف الذي لا يمكنه رده، أما ما رآه معروفا عظيما.. أن أمي كانت تغسل ملابسنا وملابسه، وقتها لم يكن معه إلا ثوبان! وتعلمتُ أن المعروفَ مهما صغر مقداره يأسرُ ضميرَ الكريم..
ذهب صاحبُنا إلى الولايات المتحدة في بعثة للدراسة العليا، ومن فرط ثقتنا به كنا نقول إن أمريكا لن تغير شعرة به، وإن من سيتغير هم الأمريكان؛ لأن مبادئه ويقينه وثبات رؤيته الأولى، كنقاء وقوة الماس. تتبدل الأزمان ويبقى الألماسُ متأنّقاً بألقِ مجدِه..
ثم تسلم العملَ الحكومي، وكان في كل عمل ناجحا بتفوق.. كان المسؤولُ الوحيد الذي رأيت بعيني كيف ودّعه الموظفون وأهالي المدينة بالتفاف تلقائي، وأقاموا له حفلا عاما وداعيا أسطوريا بأكبر صالات المنطقة الفندقية، وقيلت فيه القصائد وارتفعت له حناجر الخطباء. وشهدت شيئا أعجب.. بعضهم لم يكمل خطبته من البكاء..أكتب هذا، وأعرف أن حضور ذلك الحفل يتذكرون اللحظات المهيبة المترعة بالحب الإنساني. ولاحظوا أنهم يودعون موظفا مغادرا لم يعد باستطاعته أن يقدم لهم الخدمات، فتأمل أجمل ما سيحصل عليها موظفٌ مخلص: مكافأة حب واحترام مجتمعه له بعد أن يغادر موقعه.
صاحبنا الرجل العادي من أجله يخرج رجلٌ عادي آخر من الحاضرين، ويقول بعفويةٍ صادقة: "طول عمري كنت أظن الموظفَ هو الذي نتقرب له كي نرضيه، أول مرة أرى موظفا يخدمنا ويرضينا.. وهو الذي يتقرب إلينا!"
أهدي قصة الرجل الماسة إلى كل موظف.. وإني أؤمن أن هناك ماسة جاهزة للاكتشاف داخل كل موظف، والمكتشف هو نفسه، وسيجد ماسته الداخلية وهو يؤدي مخلصا خدماته للناس، وسيُحفظ له المقامُ والتقديرُ وهو في وظيفته، وسيُحفظ له مكانةٌ وتقديرٌ في مجتمعه بعد أن يترك وظيفته.
لما ودع الناسُ صاحبَنا بالعرفان لم يكن آمرا، ولا قائدا، ولا من وجهاء المال ولا من أصحاب النفوذ، كان.. مجرّد موظف!