كتبه: أبو معاذ محمد الطايع
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد قال بعض العلماء: « تعلم العلم؛ فإنه يقومك ويسددك صغيرًا، ويقدمك ويسودك كبيرًا، ويصلح زيغك وفسادك، ويرغم عدوك وحاسدك، ويقوِّم عوجك وميلك، ويحقق همتك وأملك ».
وليس يجهل فضل العلم إلا أهل الجهل؛ لأن فضل العلم إنما يعرف بالعلم، فلما عدم الجهال العلم الذي به يتوصلون إلى فضل العلم جهلوا فضله، واسترذلوا أهله، وتوهموا أن ما تميل إليه نفوسهم من الأموال المقتناة والطرق المشتهاة أولى أن يكون إقبالهم عليها وأحرى أن يكون اشتغالهم بها.
وقد بين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فضل ما بين العلم والمال، فقال: « العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم حاكم والمال محكوم، مات خزان الأموال وبقي خزان العلم، أعيانهم مفقودة وأشخاصهم في القلوب موجودة ».
وفضل العلم وأهله معروف غير منكور، نطق به القرآن الكريم، ورفع شأنه وأكدته السنة النبوية، وأمر الله بالتزود منه وطلب المزيد منه، قال تعالى: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ (سورة طه آية: 114)، وقال - عز وجل -: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ (سورة المجادلة آية: 11).
وفي السنة النبوية قال - صلى الله عليه وسلم -: ) من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين (، واستشهد الله تعالى بأهل العلم على أجلّ مشهود به وهو توحيد الله، وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة الملائكة، وهذه تزكية لهم وتعديل وتوثيق؛ لأن الله تعالى لا يستشهد بمجروح قال تعالى: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ (سورة آل عمران آية: 18).
وأهل العلم لا ينفعون أنفسهم فقط، وإنما ينفعون غيرهم بما يرشدونهم إليه، ويدلونهم عليه فيوصلونهم به إلى ربهم - عز وجل - فالناس كما قال الامام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى -: « إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب؛ لأنهم يحتاجون اليهما في اليوم مرة أو مرتين، وحاجتهم إلى العلم بعدد أنفاسهم ».
وطلب العلم مفضل على الجهاد في سبيل الله، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: « الغدو والرواح في تعلم العلم أفضل عند الله من الجهاد في سبيل الله عز وجل ». وقال الإمام أحمد - رحمه الله -: « تعلم العلم وتعليمه أفضل من الجهاد وغيره ».
ومن أجل هذا كله لم يكن غريبًا أن ينظر بعض أهل العلم لطلب العلم على أنه أفضل من صلاة النافلة، كما قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك وغيرهم من أئمة المسلمين.
كما قال الإمام أبو حنيفة ومالك - رحمهما الله -: « أفضل ما تطوع به العلم وتعليمه ». وقال ابن القيم - رحمه الله -: « لا يعدل مداد العلماء إلا دم الشهداء ».
والعلم أفضل ما عمرت به الأوقات، وخير ما أنفقت فيه الأنفاس, وبذلت فيه المهج، قال النووي - رحمه الله -: « اتفق جماعات السلف على أن الاشتغال بالعلم, أفضل من الاشتغال بنوافل الصلاة, والصوم, والتسبيح, ونحو ذلك من أعمال البدن ».
وجاءت السنة النبوية بالبشارة لهم، ففيها: ) أن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض (، ) وأن الله تعالى وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير (. فعلى الداعي المسلم أن يحرص أن يكون دائمًا من المتفقهين في الدين العلماءِ بأحكامه المعلمين للناس الخيرَ؛ حتى يصيبه ما نطقت به هذه الآيات والأحاديث.
وتعلم العلم على نوعين:
النوع الأول: واجب على كل مسلم ومسلمة، ولا يقدر أحد على تركه، وهو تعلم ما يستقيم به دينه؛ كأحكام العقيدة والطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج على الوجه الذي يتمكن به من أداء هذه العبادة على وجهها الصحيح.
ولكن بعض الناس فرط في هذا، فتراه يؤدي العبادة بطريقة خاطئة، ومع ذلك لم يحاول تعلم أحكامها، بينما تجده حريصًا على دنياه، يطلبها من كل وجه، ومن هذا عمله سيسأله الله على تفريطه؛ فليعد للسؤال جوابًا، وللجواب صوابًا.
والنوع الثاني: ما زاد عن ذلك؛ من تعلم بقية أحكام الشريعة في المعاملات والتفقه في أمور العبادات؛ فهذا واجب على الكفاية، إذا قام به من يكفي من المسلمين سقط الإثم عن الباقين، وإن تركه الكل أثموا.
أخي الكريم: ويجب التأكيد على أن المقصود بكلامنا عن العلم الذي يرفع شأن طلابه ومعلميه هو العلم الذي يعين على إعزاز الدين، ورفع راية الحق، ولا يكون ذلك إلا بثلاثة أمور:
الأول: تعظيم العلم وإجلاله واعتقاد خطورته كما قال حافظ حكمي - رحمه الله -:
وقدس العلم واعرف قدر حرمته
لو يعلم المرء قدر العلم لم ينم
الثاني: الجد في طلبه وترك الدعة والكسل، ومسابقة الغير فيه، والتفوق على أهل ملة الكفر والعناد.
الثالث: الالتزام بمنهج جاد يسير عليه ويعول.
كما لا بد أن يكون طلب العلم خالصًا لوجه الله - تعالى - لا يراد به عرض من الدنيا، وذلك ليعم نفعه، ويؤجر صاحبه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ) من تعلم علمًا مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة (. والنية الصالحة تحوّل العمل الدنيوي إلى عبادة كما أن النية المدخولة والرياء يحبطان الأعمال، ويجعلان أعظم العبادات طريقا لجهنم وبئس المصير.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ) إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرّفه نعمته فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسَّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأتي به فعرّفه نعمه قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جوّاد، فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار (.
وكذلك إذا أحاط طالب العلم علمًا بالمسألة؛ فالواجب عليه أن يطبقها على نفسه، ويعمل بها؛ ليكون علمه نافعًا، فإن العلم النافع ما طبقه الإنسان عمليًّا، والعمل بالعلم هو ثمرة العلم، والجاهل خير من عالم لم ينتفع بعلمه ولم يعمل به؛ فإن العلم سلاح: فإما أن يكون سلاحًا لك على عدوك، وإما أن يكون سلاحًا موجهًا إلى صاحبه؛ لذا كان - صلى الله عليه وسلم – يتسعيذ: ) من علم لا ينفع (.
وفي فضل العلم وفضل النية الصالحة في جميع الأعمال وشؤم النية السيئة جاء حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذي قال فيه: ) وأحدثكم حديثا فاحفظوه: إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالًا وعلما فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقا فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالًا فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالًا لعملت بعمل فلان، فهو بنيته فأجرهما سواء، أو عبد رزقه الله مالًا ولم يرزقه علمًا يخبط في ماله بغير علم ولا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقا فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالًا ولا علمًا فهو يقول: لو أن لي مالًا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته فوزرهما سواء (.
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.