للدكتور محمد بن خليفة التميمي *
إعداد: عجايب العتيبي
أحببت أن أذكِّر نفسي وإخواني بعظم مسؤوليتنا وواجبنا تجاه هذا العلم الذي ننتسب إليه، من خلال هذا البحث الذي يحتوي على الإشارة إلى بعض المضامين التي احتواها قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [التوبة: 122]، فقوله تعالى: { لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ } إرشاد إلى أمانة التحمّل؛ فمن واجب طالب العلم أن يتفقه في دين الله قبل أن يتصدر لتعليمه وإبلاغه لسائر الناس، وأما قوله: { وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } ففيه إشارة إلى مسؤولية الأداء التي يتحملها طالب العلم بعد تزوده بالعلم النافع المفيد·
رفعة
ولو تأملت قوله تعالى: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [الزمر: 9] وتأملت نفسك قبل أن تطلب العلم وبعد أن منَّ الله عليك بطلب العلم هل الحال مستو، فالجواب (لا) ولو تأملت نفسك وأقرانك الذين في سنك ممن لم يطلبوا العلم هل تستوون فالجواب (لا) ولو تأملت نفسك وعوام الناس لوجدت الفارق العظيم، فهذه واحدة·
وأما الثانية ففي قوله تعالى: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [المجادلة: 11] إن هذه الرفعة التي وعد الله بها أهل الإيمان والعلم، منها ما هو في الحياة الدنيا ومنها ما هو في الآخرة، فطالب العلم له بين الناس منزلةٌ ومكانة واحترام وتقدير ولا يتسع الوقت لضرب الأمثلة على تلك الرفعة وهو أمرٌ ملموسٌ مشاهد·
قال ابن القيم – رحمه الله تعالى: (إن العلم يرفع صاحبه في الدنيا والآخرة ما لا يرفعه المُلْك ولا المال ولا غيرهما، فالعلم يزيد الشريف شرفاً ويرفع العبد المملوك حتى يجلسه مجالس الملوك، كما ثبت في الصحيح من حديث الزهري عن أبي الطفيل أن نافع بن عبد الحارث أتى عمر بن الخطاب بعسفان، وكان عمر استعمله على أهل مكة، فقال له عمر: من استخلفت على أهل الوادي قال: استخلفت عليهم ابن أبزى، فقال من ابن أبزى؟ فقال: رجل من موالينا، فقال عمر: استخلفت عليهم مولى· فقال: إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض، فقال عمر: أما إن نبيكم [ قد قال: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين)· وقال أبو العالية: (كنت آتي ابن عباس وهو على سريره وحوله قريش فيأخذ بيدي فيجلسني معه على السرير فتغامز بي قريش، ففطن لهم ابن عباس، فقال: كذا هذا العلم يزيد الشريف شرفاً ويجلس المملوك على الأسرّة)·
وأما الثالثة فإن أهل العلم وطلبته هم أهل الخشية كما شهد الله بذلك في قوله: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء } [فاطر: 28]·
ورثة الأنبياء
المطلب الثّاني: الأدلّة من السّنّة
1- أهل العلم هم ورثة الأنبياء كما قال صلى الله عليه وسلم : “العلماء ورثة الأنبياء” فالله – سبحانه – جعل العلماء وكلاءَ وأمناءَ على دينه ووحيه وارتضاهم لحفظه والقيام به والذبِّ عنه، وناهيك بها منزلة شريفة ومنقبة عظيمة·
قال ابن القيم: “قوله: (إن العلماء ورثة الأنبياء) هذا من أعظم المناقب لأهل العلم فإن الأنبياء خير خلق الله، فورثتهم خير الخلق بعدهم، ولما كان كل موروث ينتقل ميراثه إلى ورثته، إذ هم الذين يقومون مقامه من بعده، ولم يكن بعد الرسل من يقوم مقامهم في تبليغ ما أرسلوا به إلا العلماء كانوا أحق الناس بميراثهم، وفي هذا تنبيه على أنهم أقرب الناس إليهم فإن الميراث إنما يكون لأقرب الناس إلى الموروث، وهذا كما أنه ثابت في ميراث الدينار والدرهم فكذلك هو في ميراث النبوة والله يختص برحمته من يشاء”
2- ثم إن طلب العلم مصدر الخير والسعادة في الدنيا والآخرة قال صلى الله عليه وسلم : “من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين” وقال صلى الله عليه وسلم : “من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهَّل الله به طريقاً إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم لرضا الله عنه، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يوّرثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافٍ”
3- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها”
قال ابن القيم: “فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا ينبغي لأحد أن يحسد أحداً يعني: حسد غبطة، ويتمنى مثل حاله من غير أن يتمنى زوال نعمة الله عنه إلا في واحدة من هاتين الخصلتين، وهي الإحسان إلى الناس بعلمه أو ماله، وما عدا هذين فلا ينبغي غبطته ولا تمني مثل حاله لقلة منفعة الناس به”
4- وقال صلى الله عليه وسلم : “إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا” قالوا يا رسول الله: وما رياض الجنة؟ قال: “حلق الذكر”
منار سبيل الجنة
المطلب الثّالث: أقول بعض العلماء
1- هذا الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول في فضل العلم: “تعلموا العلم، فإن تعّلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه من لا يحسنه صدقة، وبذله لأهله قربة، به يُعرف الله ويُعبد، وبه يُوحد، وبه يُعرف الحلال من الحرام، وتوصل الأرحام، وهو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الخلوة، والقريب عند الغرباء، ومنار سبيل الجنة، يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة وسادة يقتدى بهم، أدلة في الخير تقتص آثارهم، وترمق أفعالهم، وترغب الملائكة في خُلتهم وبأجنحتها تمسحهم، ويستغفر لهم كل رطب ويابس، حتى حيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه والسماء ونجومها، والعلم حياة القلوب من العمى، ونور الأبصار من الظلم، وقوة للأبدان من الضعف يبلغ به العبد منازل الأبرار والدرجات العلى، التفكر فيه يُعدل بالصيام ومدارسته بالقيام، وهو إمام للعمل والعمل تابعه يُلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء”
هذا الأثر معروف عن معاذ بن جبل رضي الله عنه الذي هو أعلم الناس بالحلال والحرام·
2- وعن علي ] قال: الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رَعَاعٌ أتباع كُل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيؤوا بنور العلم ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق·
العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال·
العلم يزكو على الإنفاق، والمال تنقصه النفقة·
العلم حاكم والمال محكوم عليه·
ومحبة العلم دين يدان بها·
العلم يكسب العالم طاعة في حياته، وجميل الأُحْدُوثَة بعد وفاته·
وقال ابن القيم: “رواه الخطيب وأبو نعيم وغيرهما عن معاذ بن جبل ورواه أبو نعيم في المعجم من حديث معاذ مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يثبت وحسبه أن يصل إلى معاذ” انتهى· انظر: مفتاح دار السعادة 1/120·
وصنيعة المال تزول بزواله، مات خُزَّانُ المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة·
3- وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول إذا رأى الشباب يطلبون العلم: “مرحباً بينابيع الحكمة ومصابيح الظُّلَم جدد القلوب حلس البيوت ريحان كل قبيلة”
4- وقال وهب بن منبه: “يتشعب من العلم الشرف وإن كان صاحبه دنياً، والعز وإن كان مهيناً، والقرب وإن كان قصياً، والغنى وإن كان فقيراً، والمهابة وإن كان وضيعاً”
الإدراك والمعرفة
المبحث الثّاني: السّبيل إلى تحمّل العلم
المطلب الأوّل: حاجة طالب العلم إلى الذّكاء والزّكاء·
لو نظرت في أصناف طلبة العلم لوجدتهم لا يخرجون عن أحد أصناف ثلاثة:
صنف أوتي ذكاء وفهماً، مع زكاء نفس وحسن سريرة، فحَمَلَهُ ذكاؤه على الجد في طلب العلم والسعي في تحصيله، وحَمَلَهُ زَكَاءُ نفسه وطُهْرُها على العمل بهذا العلم وتطبيقه·
وصنف ثاني: أوتي ذكاء ولم يؤت زكاء، فحمله ذكاؤه على حفظ العلم وتحصيله، ومنعه زكاؤه من العمل به وتطبيقه وهذا علمه حجّة عليه لا حجّة له يوم القيامة·
وصنف ثالث: حرم الأمرين معاً، فليس عنده ذكاءٌ يحصل به العلم وليس عنده زكاءٌ يطبق به العلم·
وهذه الأصناف الثلاثة ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت عنه في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: “إن مثل ما بعثني الله به – عزَّ وجلَّ – من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله منها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ· فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله به فعَلِمَ وعلّمَ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به”
وفي هذا الحديث شبّه النبي صلى الله عليه وسلم العلم الذي جاء به بالغيث لأن كُلاًّ من العلم والغيث سبب الحياة، فالغيث سبب حياة الأبدان والعلم سبب حياة القلوب، وشبه القلوب بالأودية وكما أن الأرضين ثلاثة بالنسبة إلى قبول الغيث:
إحداها: أرض زكية قابلة للشراب والنبات، فإذا أصابها الغيث ارتوت ومنه يثمر النبت من كل زوج بهيج·
فذلك مثل القلب الزكي الذكي، فهو يقبل العلم بذكائه فيثمر فيه وجوه الحكم ودين الحق بزكائه، فهو قابل للعلم مثمر لموجبه وفقهه وأسرار معادنه·
والثانية: أرض صلبة قابلة لثبوت ما فيها وحفظه، فهذه تنفع الناس لورودها والسقي منها والازدراع·
وهو مثل القلب الحافظ للعلم الذي يحفظه كما سمعه، فهو يحفظه للحفظ المجرد فهو يؤدي كما سمع وهو من القسم الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم : “فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه غير فقيه”
والأرض الثالثة: أرض قاع وهو المستوي الذي لا يقبل النبات ولا يمسك ماء، فلو أصابها من المطر ما أصابها لم تنتفع منه شيئاً، فهذا مثل القلب الذي لا يقبل العلم والفقه والدراية، وإنما هو بمنزلة الأرض البور التي لا تنبت ولا تحفظ·
فالصنف الأول من الناس: عالم معلم، وداع إلى الله على بصيرة، فهذا من ورثة الرسل وهذا الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : “من فقه في دين الله ونفعه الله به فعلم وعلم”
والصنف الثاني: من أوتي الذكاء وحرم الزكاء فهو بذكائه حفظ ونقله لغيره·
والصنف الثالث: لا هذا ولا هذا، فهو قد حُرِمَ الذكاء والزكاء، فهو لذلك لم يقبل هدى الله، ولم يرفع به رأساً· فاسْتَوْعَبَ الحديثُ أصناف الناس في مواقفهم من العلم الشرعي·
فعلى طالب العلم أن يحرص على سلامة قلبه فذلك الذي ينفعه عند الله قال تعالى: { إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الشعراء: 89] والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك، وسلم من البدع، وسلم من الغي، وسلم من الباطل، فهو القلب الذي سلم لعبودية ربه حياءً وخوفاً وطمعاً ورجاءً، فقدم حب الله على حب من سواه، وخوفه على خوف من سواه، ورجاءه على رجاء من سواه، وسلَّم لأمره ولرسوله صلى الله عليه وسلم تصديقاً وطاعة، واستسلم لقضاء الله وقدره، وبالتالي سلَّم جميع أحواله وأقواله وأعماله ظاهراً وباطناً لله وحده· فلا بد أن يطهر طالب العلم قلبه من كل غش ودنس وغل وحسد وسوء عقيدة وخلق، ليصلح بذلك لقبول العلم وحفظه والاطلاع على دقائق معانيه وحقائق غوامضه، فإن العلم – كما قال بعضهم -: صلاة السر وعبادة القلب وقربة الباطن، وكما لا تصح الصلاة التي هي عبادة الجوارح الظاهرة إلا بطهارة الظاهر من الحدث والخبث، فكذلك لا يصلح العلم الذي هو عبادة القلب إلا بطهارته عن خبث الصفات وحدث مساوئ الأخلاق ورديئها· وإذا طيب القلب للعلم ظهرت بركته ونما، كالأرض إذا طيبت للزرع نما زرعها وزكا·
قلب عقول ولسان سؤول
المطلب الثّاني: مراتب نيل العلم
لنيل العلم مراتب ينبغي لطالب العلم مراعاتها حتى يحصل له عن طريقها نيل العلم بأقرب طريق وأيسر سبيل، وقد ذكر العلماء تلك المراتب وأوضحوها لطلاب العلم حتى يأخذوا بها·
أما المرتبة الأولى: فهي حسن السؤال، فمن الناس من يحرم العلم لعدم حسن سؤاله، إما لأنه لا يسأل بحال، أو يسأل عن شيء وغيره أهم إليه منه كمن يسأل عن فضوله التي لا يضر جهله بها ويدع ما لا غنى له عن معرفته، وهذه حال كثير من الجهال المتعلمين·
قالت عائشة – رضي الله عنها -: “رحم الله نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يسألن عن أمر دينهن”
وسأل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه دغفل بن حنظلة فقال: “يا دغفل من أين حفظت هذا؟” قال: “حفظت هذا بقلب عقول ولسان سؤول”
أما المرتبة الثانية: فهي حسن الإنصات، فمن الناس من يحرم العلم لسوء إنصاته، فيكون الكلام والمماراة آثر عنده وأحب إليه من الإنصات وهذه آفة كامنة في أكثر النفوس الطالبة للعلم وهي تمنعهم علما كثيراً ولو كان حَسَنَ الفهم· ذكر ابن عبد البر عن بعض السلف أنه قال: “من كان حسن الفهم رديء الاستماع لم يقم خيره بشره”
وقال الزهري: “كان أبو سلمة يسأل ابن عباس فكان يعرض عنه وكان عبيد الله بن عبد الله بن عتبة يلاطفه فيغره غراً، وقال أبو سلمة: لو رفقت بابن عباس لاستخرجت منه علماً كثيراً” وقال ابن جريج: “ما استخرجت العلم الذي استخرجت من عطاء إلا برفقي به”، وقال بعض السلف: “إذا جالست العالم فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول”
والمرتبة الثالثة: حسن الفهم، فقد قال الله تعالى: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } [ق: 37] فتأمل ما تحت هذه الألفاظ من كنوز العلم وكيف تفتح مراعاتها للعبد أبواب العلم والهدى وكيف ينغلق باب العلم من إهمالها وعدم مراعاتها، فإنه سبحانه أمر عباده أن يتدبروا آياته المتلوّة المسموعة والمرئية المشهودة بما تكون تذكرة لمن كان له قلب فإن من عدم القلب الواعي عن الله لم ينتفع بكل آية تمر عليه ولو مرت به كل آية ومرور الآيات عليه كطلوع الشمس والقمر والنجوم وكمرورها على من لا بصر له، فإذا كان له قلب كان بمنزلة البصير إذا مرت به المرئيات، فإنه يراها·
والمرتبة الرابعة: هي الحفظ، قال الخليل بن أحمد: “ما سمعت شيئاً إلا كتبتهُ، ولا كتبته إلا حفظته، ولا حفظته إلا نفعني”
وعن الشعبي أنه قال: “كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به”
وأما المرتبة الخامسة: فهي العمل به، قال بعض السلف: “كنا نستعين على حفظ العلم بالعمل به” وقال بعض السلف أيضاً: “العلم يهتف بالعمل فإن أجابه حل وإلا ارتحل” فالعمل به من أعظم أسباب حفظه، وثباته، وترك العمل به إضاعة له فما استدر العلم ولا استجلب بمثل العمل· قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ } [الحديد: 28]·
وأما المرتبة السادسة: وهي نشره وتعليمه·
وقد قيل: “ما صينَ العلم بمثل العمل به وبذله لأهله”
وقال ابن القاسم: “كنا إذا ودَّعنا مالكاً يقول لنا: اتقوا الله وانشروا هذا العلم وعلموه ولا تكتموه”
وعن أبي حاتم الرازي قال: “نَشْرُ العلم حياته، والبلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة، يعتصم به كل مؤمن، ويكون حجة على كل مقر به وملحد”
المطلب الثّالث: آداب طالب العلم
على طالب العلم أن يراعي جملة من الأمور يتحلى بها في سلوكه سبيل العلم ومن بينها:
أولاً: حسن النية في طلب العلم: بأن يقصد به وجه الله – تعالى – والعمل به وإحياء الشريعة وتنوير قلبه وتحلية باطنه، والقرب من الله – تعالى – يوم القيامة، والتعرض لما أعد لأهله من رضوانه وعظيم فضله·
قال سفيان الثوري: “ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي”
ولا يقصد به الأغراض الدنيوية من تحصيل الرياسة والجاه والمال ومباهاة الأقران وتعظيم الناس له وتصديره في المجالس ونحو ذلك فيستبدل الأدنى بالذي هو خير·
فإن العلم إن خلصت فيه النية قبل وزكا ونمت بركته، وإن قصد به غير وجه الله – تعالى – حبط وضاع وخسرت صفقته، وربما تفوته تلك المقاصد ولا ينالها فيخيب قصده ويضيع سعيه·
ثانياً: أن يبادر شبابه وأوقات عمره إلى التحصيل، ولا يغتر بخدع التسويف والتأميل، فإن كل ساعة تمضي من عمره لا بدل لها ولا عوض عنها، ويغتنم وقت فراغه ونشاطه وزمن عافيته وشرخ شبابه ونباهة خاطره وقلة شواغله قبل عوارض البطالة أو موانع الرياسة، قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: “تفقهوا قبل أن تسودوا” وقال الشافعي: “تفقه قبل أن ترأس فإذا رأست فلا سبيل إلى التفقه”
ويقطع ما يقدر عليه من العلائق الشاغلة والعوائق المانعة عن تمام الطلب وبذل الاجتهاد وقوة الجد في التحصيل فإنها كقواطع الطريق، ولذلك استحب السلف التغرُّب عن الأهل والبعد عن الوطن لأن الفكرة إذا توزعت قصرت عن درك الحقائق وغموض الدقائق، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، وكذلك يقال: العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك·
ومما يقال عن الشافعي أنه قال: “لو كلفت شراء بصلة لما فهمت مسألة”
ثالثاً: أن يقسم أوقات ليله ونهاره ويغتنم ما بقي من عمره فإن بقية العمر لا قيمة له·
وأجود الأوقات للحفظ الأسحار، وللبحث الأبكار، وللكتابة وسط النهار، وللمطالعة والمذاكرة الليل·
وقال الخطيب: “أجود أوقات الحفظ الأسحار ثم وسط النهار ثم الغداة”
قال: “وحفظ الليل أنفع من حفظ النهار ووقت الجوع أنفع من وقت الشبع”
رابعاً: أن يقلل نومه ما لم يلحقه ضرر في بدنه وذهنه ولا يزيد في نومه في اليوم والليلة على ثماني ساعات وهو ثلث الزمان، فإن احتمل حاله أقل منها فعل·
ولا بأس أن يريح نفسه وقلبه وذهنه وبصره إذا كلّ شيء من ذلك أو ضعف بتنزه وتفرج في المستنزهات بحيث يعود إلى حاله ولا يضيع عليه زمانه·
خامساً: أن يترك مصاحبه من كثر لعبه وقلت فكرته، فإن الطباع سراقة وآفة العشرة ضياع العمر بغير فائدة، والذي ينبغي لطالب العلم ألا يخالط إلا من يفيده أو يستفيد منه·
وإذا احتاج إلى من يصحبه فليكن صاحباً صالحاً، ديناً، تقياً، ورعاً، ذكياً، كثير الخير، قليل الشر، حسن المداراة، قليل المماراة، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإن احتاج واساه، وإن ضجر صبره·
سادساً: أن يأخذ نفسه بالورع في جميع شأنه ويتحرى الحلال في طعامه وشرابه ولباسه ومسكنه وفي جميع ما يحتاج إليه هو وعياله، ليستنير قلبه، ويصلح لقبول العلم ونوره والنفع به· وعليه أن يقنع من القوت بما تيسر وإن كان يسيراً، ومن اللباس بما يستر مثله وإن كان خَلقاً، فبالصبر على ضيق العيش ينال سعة العلم، ويجمع شمل القلب على مفترقات الآمال فتفجر فيه ينابيع الحكم·
فتنة كل مفتون
المطلب الثّاني: مسؤوليّة أدائه تعليماً
وأما عن مسؤولية أدائه تعليماً: فقال عبد الله بن المبارك: “من بخل بالعلم ابتلي بثلاث: إما بموت يُذهب علمه، وإما يُنسى، وإما يلزم السلطان فيذهب علمه سلطاناً”
وعن أبي قلابة قال: “العلماء ثلاثة: رجل عاش بعلمه، ولم يعش الناس به معه، ورجل عاش الناس بعلمه ولم يعش هو به، ورجل عاش بعلمه وعاش الناس به معه”
قال بعض السلف صنفان إذا صلحا صلح سائر الناس وإذا فسدا فسد سائر الناس: العلماء والأمراء·
قال عبد الله بن المبارك: “وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها”
وقال محمد بن الفضل: “ذهاب الإسلام على يدي أربعة أصناف من الناس:
1- صنف لا يعملون بما يعلمون·
2- وصنف يعملون بما لا يعلمون·
3- وصنف لا يعلمون ولا يعملون·
4- وصنف يمنعون الناس من العلم”
قال ابن القيم: “الصنف الأول: من له علم بلا عمل فهو أضر شيء على العامة، فإنه حجة لهم في كل نقيصة ومنحسة·
والصنف الثاني: العابد الجاهل، فإن الناس يحسنون الظن به لعبادته وصلاحه، فيقتدون به على جهله·
وهذان الصنفان هما اللذان ذكرهما بعض السلف في قوله:
“احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون”، فإن الناس إنما يقتدون بعلمائهم وعبادهم، فإن كان العلماء فجرة والعباد جهلة عمت المصيبة وعظمت الفتنة على الخاصة والعامة·
والصنف الثالث: من لا علم لهم ولا عمل وإنما هم كالأنعام السائمة·
والصنف الرابع: نواب إبليس في الأرض وهم الذين يُثبِّطون الناس عن طلب العلم والتفقه في الدين فهؤلاء أضر عليهم من شياطين الجن، فإنهم يحولون بين القلوب وبين هدى الله وطريقه”
قال الشعبي: “كل أمة علماؤها شرارها إلا المسلمين، فإن علماءهم خيارهم”
قال ابن تيمية: “أهل السنة في الإسلام، كأهل الإسلام في الملل، وذلك أن كل أمة غير المسلمين فهم ضالون، وإنما يُضلهم علماؤهم، فعلماؤهم شرارهم، والمسلمون على هدى، وإنما يتبين الهدى بعلمائهم، فعلماؤهم خيارهم· وكذلك أهل السنة أئمتهم خيار الأمة، وأئمة أهل البدع أضر على الأمة من أهل الذنوب”
وقال بدر الدين بن جماعة: “واعلم أن جميع ما ذكر من فضيلة العلم والعلماء إنما هو في حق العلماء العاملين الأبرار المتقين الذين قصدوا به وجه الله الكريم، والزلفى لديه في جنات النعيم لا من طلبه بسوء نيّة أو خبث طوية أو لأغراض دنيوية من جاه أو مال أو مكاثرة في الأتباع والطلاب”