د. عبد العزيز الغدير
أحد الأصدقاء قال لي إنه فتح حسابا له في ''تويتر'' من باب الفضول ليس إلا فما لبث أن أدمن عليه وبشكل يومي، وسبب ذلك أن المتحاورين في ''تويتر'' فتحوا ذهنه وطوروا فكره وأعادوا تشكيل منظومة قيمه ومفاهيمه ومعارفه ومعلوماته حتى رأى نفسه في وضعها الحقيقي لا كما كان يظن موهوما من قبل.
ويضيف أن الحوار في ''تويتر'' وما يؤدي إليه من مواقع ومقالات ومدونات وأفلام مرئية أعاد تشكيل وعيه ومواقفه وسلوكياته خلال ثلاثة أشهر فقط ـــ كما يقول ـــ حيث تعرضت معلوماته ومعارفه وأفكاره وقناعاته الراسخة وما بني عليها من مواقف وسلوكيات لهزات شديدة أفضت بالمحصلة لتوازن فكري وسلوكي جعل حياته أكثر سهولة وجودة، إذ إنه تخلص من التطرف الفكري والتشنج في كثير من المجالات، والنرجسية العالية التي رسخها المجتمع في أنه الأخيار ذو دم عربي قبلي نقي عريق، كما خلصه من ازدراء الآخرين بل وحتى روح الكراهية تجاه الآخر، حيث أصبحت روح المحبة واحترام الآخر والتيسير والتواضع والتعامل الإنساني والتثاقف والحياة دون أوهام منطلقات أساسية في حياته، كما مكنه من التفريق بين الثابت والمتغير بشكل جلي ما جعله يتخلص من الكثير من العقد النفسية والاجتماعية.
لا أخفيكم أن ما قاله صديقي هذا هو ما حدث معي تماما، ولكي أتأكد من أن ذلك ليس شيئا شخصيا سألت الكثير من الأصدقاء والأقرباء ممن ينشط على ''التويتر'' فأفادوني بالشيء نفسه، حيث إن الحوارات في ''تويتر'' وما يقترحه المشتركون به من قراءات وأفلام مرئية وغيرها أثرت بشكل كبير في مفاهيمهم وقيمهم ومواقفهم وبالتالي سلوكياتهم، وأنهم اكتشفوا حقيقة وضعهم مقارنة بالآخرين، وجعلتهم متوازنين فكريا وسلوكيا ونفسيا إلى درجة أفضل مما كانوا عليه بكثير.
أحدهم يقول وهو من منطقة نائية يغلب عليها التفاخر القبلي إنه كان يعيش ظنا موهوما بشأن قدرات وتفرد قبيلته وإنجازاتها حتى تبين له من خلال النقاشات أن كل مكون اجتماعي به الصالح وبه الطالح وأن إنجازات المكونات الاجتماعية في الدول الغربية أكثر تقدما وإنجازا، وأن ما نفتخر به أصبح من الماضي ومعظمه غير صالح للاستعمال العصري، حيث إن الكثير من العرب في هذا العصر يعيشون عصور التخلف والظلام ويصنفون من ضمن دول العالم الثالث المتخلفة تنمويا وأن المنتجات التي نهضت بالحضارة العالمية كالطائرات والسيارات والإلكترونيات ووسائل الإعلام والكهرباء وتقطير المياه والكمبيوترات وبرمجياتها هي من صناعة الأعراق الأخرى فواخزياه مما نحن فيه، ويضيف أنه بعد أن كان متراخيا لما هو فيه من سمو موهوم أصبح نهما تجاه العلم والمعرفة لينطلق بذاته ويدفع ببلده في السباق الحضاري، وهو تحول محمود بكل تأكيد.
ثالث يقول إنه كان يردد ''الوصمات'' التي تطلق على بعض المفكرين مثل (علماني، ليبرالي، قومي، رافضي، جهمي، أشعري، اشتراكي... إلخ) ويتخذ منهم مواقف سلبية ويدعو الآخرين لفعل ذلك دون أن يفهم معنى تلك ''الوصمات'' حتى فاجأه بعض ''المتوترين'' بسؤاله عن معنى هذه الوصمات أو المسميات؟ وفيما إذا كانت إشاعة مثل هذه الوصمات لصالح التعايش الاجتماعي أم ضده؟ الأمر الذي دعاه لمراجعتها وفهمها ليصل إلى مفاهيم جديدة حول الصراع الفكري العالمي، وأن الآراء يجب أن تحترم وأنه من الحكمة أن تطرح ما تؤمن به من أفكار منبعها الدين الإسلامي بالحسنى ليتقبلها الناس دون التعرض لهم ولمقدساتهم بالاتهامات والشتائم وتوزيع ''الوصمات''، بل يضيف أنه وجد أن بعض ما يطرحه سابقا للذود عن الفكر الإسلامي يتعارض مع صريح مفاهيم الدين الإسلامي الذي يدعو للحرية والعدالة والمساواة والمحبة والمودة والتراحم والدعوة إلى الله بالموعظة الحسنة، وأن الاختلاف ماضٍ إلى يوم القيامة.
آخر يقول إنه كان يقول دائما إننا الأفضل في التعليم وفي الصحة والقضاء والبنى التحتية، حيث كان يقارن ما كان الوضع عليه قبل الطفرة وما هو عليه الوضع حاليا، يقول إنه تراجع عن ذلك بعد أن سأله بعض ''المتوترين'' عن مرجعياته في هذه الأحكام المرسلة، ويضيف أنه بعد أن فهم المؤشرات المعيارية ومؤشرات المقارنة الدولية التي يجب الرجوع لها للحكم على وضع أي دولة في أي مجال اكتشف ظنه الموهوم واكتشف أننا في كثير من الأمور نراوح بين صفوف الوسط والخلف، وأنه علي سبيل المثال لا الحصر فإن المملكة تقع في مرتبة متأخرة في مؤشر إنفاذ العقود (138 من أصل 183 دولة) الذي يعتبر عنصرا مهما في جذب المستثمرين رغم أننا ندعي العدالة الإسلامية التي تستوجب إعطاء الحق لأصحابه بأسرع وقت ممكن خصوصا في المجالات الاقتصادية عصب الحياة والتنمية.
شبكات التواصل الاجتماعي أيضا لعبت دورا كبيرا في تحقيق التوازن الفكري لمستخدميها من خلال تمكينهم من اختبار أفكارهم ومرئياتهم ومقترحاتهم ومواقفهم وسلوكياتهم، حيث يتمكن المستخدم من طرحها على جمع كبير من ثقافات ومستويات متعددة ليرى مدى فهمها واستيعابها وتقبلها أو رفضها وقوة التقبل وحدة الرفض ليراجعها عقلانيا ومنطقيا ليصل إلى مرحلة توازن مع ذاته ومع الغير، وهنا أذكر معلومة حصلت عليها من ''تويتر''، حيث اقترح أحدهم قراءة مقالة لكاتب أجنبي بشأن الاستفادة من الإيرادات، حيث بين نجاح المملكة باستثمار الثروة النفطية لتحقيق نجاحات تنموية كبيرة مقارنة مع كثير من الدول، وهو أمر أفرحني بكل تأكيد.
ختاما: أعتقد أن شبكات التواصل الاجتماعي و''تويتر'' على وجه الخصوص أصبحت منتديات حوار فكرية مفتوحة تشهد زحاما بشريا منقطع النظير ومن الأقطار والثقافات والمستويات كافة، ما يجعلها تعلب دورا مهما وكبيرا في تحقيق التوازن الفكري لأفراد المجتمع، وعلينا الانتباه لهذه الحقيقة واستثمارها لصالح خطط التنمية المستدامة.