يوسـف عبدالعزيز أبا الخيـل
لا ينكر أحد أن التاريخ أضحى على يد ابن خلدون علماً متكاملًا راسخاً، إذ لم يهتم بالتساؤل عن أحداث الماضي وتسجيلها، وإنما كان يسأل أيضاً عن كيفية حدوثها. بل تقدم إلى مرحلة سامية في المعرفة، فتساءل عن سبب وقوع هذه الأحداث
لا مراء في أن عبدالرحمن بن خلدون (732 808ه) رائدُ ومؤسسُ ما عرف لاحقاً في الغرب ب"فلسفة التاريخ"، وهي تلك الطفرة الفلسفية التي حولت دراسة التاريخ من مجرد سر للحوادث التاريخية، إلى تعليل لها واستنباط للقوانين التي تنتظمها، ليمكن التنبؤ بكيفية وقوعها مستقبلًا. ولقد حظي ابن خلدون بشهادات غربية عديدة تصفه وتنصفه بريادة هذه الفلسفة. يذكر الأستاذ خالد فؤاد طحطح في كتابه (في فلسفة التاريخ)، نماذج لتلك الشهادات، فينقل عن ( روبرت فلينت ) في كتابه: "تاريخ فلسفة التاريخ" أنه وصف ابنَ خلدون بقوله :"إنه منقطع النظير في كل زمان ومكان، حتى ظهور فيكو بعده بأكثر من ثلاثمائة عام. ليس أفلاطون ولا أرسطو ولا القديس أوغسطينوس بأنداد له، وأما البقية فلا يستحقون حتى الذكر بجانبه". وعن (جورج سارتون) بأنه قال عن ابن خلدون" لم يكن فحسب أعظم مؤرخي القرون الوسطى شامخاً كعملاق بين قبيلة من الأقزام، بل كان من أوائل فلاسفة التاريخ، سابقاً ميكافيلي وبودان وفيكو وكونت وكورتو". أما المستشرق الفرنسي ( سيلفيستر دي ساسي) فقد عد ابن خلدون"مونتسكيو العرب".
لقد كان التاريخ قبل ابن خلدون عبارة عن تسجيل سردي لحوادث السنين، وقيام الدول وتطورها واشتداد عودها، ومن ثم هرمها وسقوطها، إضافة إلى وصف أحوال الجماعات والأفراد. وهو المعنى الذي أكده ابن خلدون عندما وصف التاريخ قبله بأنه" لا يزيد عن أخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأولى". بمعنى أن الأحداث التاريخية، كانت قبل الريادة الخلدونية، تُروى على علاتها دون أن يتساءل المؤرخون عن مدى اتفاقها أو اختلافها مع قوانين الطبيعة، أو مع قوانين الاجتماع البشري، أو بلغة ابن خلدون"طبائع العمران البشري".
يقول الأستاذ خالد طحطح في كتابه الآنف الذكر: "كان التاريخ قبل ابن خلدون لوناً من ألوان الأدب، ونوعاً من أنواع المسامرة، وسرداً للحوادث. لقد كان الأقدمون ينظرون إليه كديوان أخبار، ولم يعدوه علماً من العلوم له قواعده وأصوله وأسسه ومناهجه. ولا ينكر أحد أن التاريخ أضحى على يد ابن خلدون علماً متكاملًا راسخاً، إذ لم يهتم بالتساؤل عن أحداث الماضي وتسجيلها، وإنما كان يسأل أيضاً عن كيفية حدوثها. بل تقدم إلى مرحلة سامية في المعرفة، فتساءل عن سبب وقوع هذه الأحداث".
وهذا الطابع السردي الأسطوري للتاريخ قبل ابن خلدون، يؤكده أحد أكبر المؤرخين المسلمين: أبو جعفر بن جرير الطبري، إذ قال في مقدمة سفره التاريخي( تاريخ الأمم والملوك ):" فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين، مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهاً من الصحة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤتَ من قبلنا، وإنما أوتي من بعض ناقليه إلينا، وإنما أديّنا ذلك على نحو ما أودّي إلينا". هنا يؤكد الطبري أنه مجرد ناقل للخبر، لكن كيفية وقوع الخبر، أو الحدث، وهل هو متوافق مع السنن الطبيعية أو الاجتماعي، فذاك خارج عن المفكر فيه عنده. ويشئ هذا النص بأن الطبري كان يحس بشناعة وخرافية بعض الأخبار التي ينقلها، لكنه لم يكن قادراً على تجاوز السقف الاجتماعي التاريخي لمهمة المؤرخ حينها.
جاء ابن خلدون في النصف الثاني من القرن الثامن الهجري فنقد تلك الطريقة غير العلمية في جمع التاريخ، لأنه لاحظ، كما أبان في خطبة كتاب العبر، "أن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها، وسطروها في صفحات الدفاتر وأودعوها، وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهموا فيها أو ابتدعوها، وزخارف من الروايات المضعفة لفقوها ووضعوها. واقتفى تلك الآثار الكثيرُ ممن بعدهم واتبعوها. وأدوها إلينا كما سمعوها. ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال، ولم يراعوها".
والسؤال هنا هو: لماذا انتقد ابن خلدون تلك الطريقة التقليدية في جمع المادة التاريخية؟
الجواب: لأن التاريخ في نظره" نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق". ومن ثم فإن هذا التوصيف الخلدوني الجديد لعلم التاريخ، يتطلب من المؤرخ، لا جمع المادة التاريخية فحسب، بل ربط الحوادث التاريخية بعللها وأسبابها، وتقصي تلك العلل والأسباب التي كانت خلف تلك الحوادث. ذلك أن أحداث التاريخ، وفقاً للنظرة الخلدونية، لا تحدث اعتباطاً أو خبط عشواء، بل إن لها أسباباً ومقدمات هي بمثابة علل لها. ومن ثم، فإن مهمة علم التاريخ هي البحث عن هذه الأسباب والعلل، ليحددها ويظهرها ويمسك بزمامها، ليكون قادراً على استنباط القوانين التي تتحكم فيها، ومن ثم إمكانية التنبؤ بها مستقبلًا. لأن الأخبار، كما يقول ابن خلدون "إذا اعتمد فيها على مجرد النقل، ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد، ولا الحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور، ومزلة القدم، والحيد عن جادة الصدق".
من هنا فإن المؤرخ محتاج، كما يقول ابن خلدون، إلى "العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات، واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السير والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأحوال، والإحاطة بالحاضر من ذلك. ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق، أو بون ما بينهما من الخلاف، وتعليل المتفق منها والمختلف، والقيام على أصول الدول والملل ومبادئ ظهورها وأسباب حدوثها، ودواعي كونها وأحوال القائمين بها وأخبارهم، حتى يكون مستوعباً لأسباب كل حادث، واقفا على أصول كل خبر. وحينئذ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول، فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان صحيحا، وإلا زيفه واستغنى عنه".
ترتب على تدشين هذا العلم الجديد القولُ بأن للتاريخ غاية يسعى إليها من خلال حوادثه، وخلال جريانه. فابن خلدون اعتبر غاية التاريخ تتحدد فيما عرف ب"التعاقب الدوري للحضارات"، حضارات(=دول) تقوم ويشتد عودها فتهرم وتموت ويخلفها غيرها وهكذا. أما رواد فلسفة التاريخ في الغرب، والذين تتلمذوا على تراث ابن خلدون فيما يخص فلسفة التاريخ، فقد كان لكل منهم رأي خاص في غاية التاريخ. فلقد جاء الفيلسوف الألماني الكبير( هيجل) في القرن الثامن عشر ففسر حوادث التاريخ بأنها صراع بين الأضداد، وأن التاريخ يسير إلى غاية سامية هي حرية الروح. أما تلميذه كارل ماركس فنظر إلى حوادث التاريخ على أنها صراع بين طبقات تنتصر فيه الطبقة المنسجمة مع وسائل الإنتاج، وأن الصراع سيظل قائما حتى تفوز طبقة العمال، ليتحول المجتمع إلى المرحلة الأخيرة فينتقل إلى الشيوعية حيث لا وجود للطبقات. وفي فرنسا كان الفيلسوف ( فولتير) ينظر إلى التاريخ على أساس أنه تقدم نحو الإنسانية الشاملة. أما الإنجليزيان (اشبنجلر وتوينبي) فقد تبنيا رؤية ابن خلدون، في النظر إلى التاريخ على أنه تعاقب دوري بين الحضارات، بمعنى أن للحضارات عمراً كعمر الإنسان، تولد ثم تشب ثم تهرم ثم تموت، ثم يخلفها غيرها وهكذا.
وللمقال صلة.