ازداد الاهتمام بموضوع (السلفية) من قبل المعاصرين، ممايحتاج معه الأمر إلى مزيد من التعمق في بيان المفهوم ، خاصة مع كثرة المدعين للانتساب إلى السلفية في هذا العصر مع اختلاف في الطرق والمناهج .
فما هي السلفية ؟
وماتاريخها؟
وما المقومات المنهجية للسلفية؟.
السلفية عند المعاصرين:
تفاوت المعاصرون في تصوير مفهوم السلفية:
ـ فبعضهم يرى أن السلفية كمنهج منسوبة إلى السلف، وهم أهل القرون الثلاثة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية في الحديث الصحيح المتواتر المخرج في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وآلـه وسـلم أنه قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ) فهذه القرون الثلاثة هم الذين شهد لهم الرسول عليه السلام بالخيرية، فالسلفية تنتمي إلى هذا السلف ، والسلفيون ينتمون إلى هؤلاء السلف.
ـ وقد عرف السلفية بهذا المفهوم عدد من الأئمة والعلماء:
فالشيخ محمد ناصر الدين الألباني ـ رحمه الله ـ قال في معنى السلفية: كلمة حقٍّ لا يستطيع أي مسلم أن يجادل فيها بعد أن تتبين له الحقيقة.
السلف: هم أهل القرون الثلاثة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية في الحديث الصحيح المتواتر المخرج في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قـال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم).
هذه النسبة ليست نسبة إلى شخص أو أشخاص, بل هذه النسبة هي نسبةٌ إلى العصمة ، ذلك لأن السلف الصالح يستحيل أن يجمعوا على ضلالة ، وبخلاف ذلك الخلف.
أشار عليه السلام إلى حديث آخر فيه مدحٌ لطائفةٍ من المسلمين حيث قال عليه السلام: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله) أوحتى تقوم الساعة)، فهذا الحديث خص المدح في آخر الزمن بطائفة، والطائفة: هي الجماعة القليلة، فإنها في اللغة: تطلق على الفرد فما فوق .
ويقول الشيخ عبد العزيز بن باز-رحمه الله-:السلف الصالح هم الصحابة رضي الله عنهم ومن سلك سبيلهم من التابعين وأتباع التابعين من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم ممن سار على الحق وتمسك بالكتاب العزيز والسنة المطهرة، في باب التوحيد، وباب الأسماء والصفات، وفي جميع أمور الدين.
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة :
«السلفية نسبة إلى السلف والسلف هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة الهدى من أهل القرون الثلاثة الأولى (رضي الله عنهم) الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخير في قوله: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجئ أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته) رواه الإمام أحمد في مسنده والبخاري ومسلم».
والسلفيون جمع سلفي نسبة إلى السلف، وقد تقدم معناه وهم الذين ساروا على منهاج السلف من اتباع الكتاب والسنة والدعوة إليهما والعمل بهما فكانوا بذلك أهل الســنة والجماعة. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم».
والشيخ محمد بن صالح العثيمين-رحمه الله- في فتاوى نور على الدرب يقول : «السلف معناه المتقدمون فكل متقدم على غيره فهو سلف له ولكن إذا أطلق لفظ السلف فالمراد به القرون الثلاثة المفضلة الصحابة والتابعون وتابعوهم هؤلاء هم السلف الصالح ومن كان بعدهم وسار على منهاجهم فإنه مثلهم على طريقة السلف وإن كان متأخراً عنهم في الزمن لأن السلفية تطلق على المنهاج الذي سلكه السلف الصالح رضي الله عنهم كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (بأن أمتي ستفترق على ثلاثةوسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة) وفي لفظ (من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي) وبناء على ذلك تكون السلفية هنا مقيدة بالمعنى فكل من كان على منهاج الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان فهو سلفي وإن كان في عصرنا هذا وهو القرن الرابع عشر بعد الهجرة»
ويقول الشيخ صالح بن فوزان الفوزان-حفظه الله: المقصود بالمذهب السلفي هو ما كان عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين والأئمة المعتبرين من الاعتقاد الصحيح والمنهج السليم والإيمان الصادق والتمسك بالإسلام عقيدة وشريعة وأدبًا وسلوكًا؛ خلاف ما عليه المبتدعة والمنحرفون والمخرفون.
وقال:تطلق السلفية على الجماعة المؤمنة الذين عاشوا في العصر الأول من عصور الإسلام والتزموا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ووصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)الحديث، فهذا وصف لجماعة وليس لمرحلة زمنية، ولما ذكر صلى الله عليه وسلم افتراق الأمة فيما بعد قال عن الفرق كلها: (إنها في النار إلا واحدة).
ووصف هذه الواحدة بأنها هي التي تتبع منهج السلف، وتسير عليه ، فقا : (هم مــن كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) فدل على أن هناك جماعة سلفية سابقة، وجماعة متأخرة تتبعها في نهجها، وهناك جماعات مخالفة لها متوعدة بالنار
ـ بعضهم يرى أن السلفية هي موافقة الرأي للكتاب والسنة وروحهما، فمن خالفهما فليس بسلفي، وإن عاش في عهد الصحابة الذين بهم ابتدأت السلفية.
ـ بعضهم يرى أن السلفية هي الارتداد للماضي ، والتشبث بأصول سابقة في عصور لاحقة.
ويعرفها الدكتور عبد الرحمن الزنيدي بأنها : الاتجاه المقدم للنصوص الشرعية على البدائل الأخرى منهجا وموضوعا، الملتزم بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه علما وعملا، المطرح للمناهج المخالفة لهذا الهدي في العقيدة والعبادة والتشريع.
ويجمع هذا التعريف الأخير بين سبب التسمية، وبين منهج السلفية، وأنه التزام بهدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه علماً وعملاً، المقدم للنصوص الشرعية على البدائل الأخرى منهجاً وموضوعاً.
التجمعات السلفية ومنهج السلف:
إن مما ينبغي التأكيد عليه بعد إدراك المعنى الصحيح لمفهوم السلفية أن السلفية ليست جماعة وليست حزباً ولاتنظيماً بل هي منهج لفهم الإسلام، منهج لاتباع الطريق الحق، وإذا كانت كذلك فإن عبادة الله بهذا المنهج واجبة، ومن عبد الله بغير هذا المنهج ضل ضلالاً مبيناً.
أما ما يوجد في الساحة من جماعات تنتهج منهج السلف كجماعة أنصار السنة وجمعية إحياء التراث وغيرها من الجماعات السلفية التي تلتزم بمنهج السلف الصالح ودخول بعضها في الانتخابات في بلدها فهذه لاشك أنها على منهج السلف ولكنها تعد جماعة أو حزباً حسب ماصنفت به نفسها أو ماصنف بلدها من تنظيمات وأحزاب وجماعات والمنتسب إليها فيه وصفان: أحدهما أنه سلفي من حيث التزامه بمنهج السلف، والثاني حزبي من حيث انتسابه لهذا الحزب أو هذه الجماعة.
والذي تجب ملاحظته هنا أمران:
الأول: أن من لم ينتسب إلى هذه الجماعة السلفية أو الحزب السلفي في بلده وهو ملتزم بمنهج السلف فهو سلفي وإن لم ينتظم في هذا الحزب أو الجماعة.
والثاني: أنه لايجوز أن ينعقد ولاء أو براء باسم هذه الجماعة أو الحزب بل ليس من المتعين إليها.
وبهذا يتبين الفرق بين التجمعات السلفية وبين منهج السلف، فمنهج السلف واجب الاتباع وأما التجمعات السلفية فلا يجب الانتساب لها ولايعني عدم انتساب الشخص لها أنه غير سلفي، ولايكون التقرير بأن هذا سلفي وهذا غير سلفي بناءً على تلك التجمعات، بل كل من التزم نهج السلف الصالح على نحو ماتقدم فهو السلفي والعلم عند الله.
السلفية في الفكر الغربي:
الأصولية والسلفية:
في الفكر الغربي المعاصرـ والإعلام بخاصة ـ شاعت لفظة الأصولية بمعنى مقارب، أو متطابق لدى بعضهم مع السلفية، ولما كانت الأصولية ترجمة لمصطلح غربي، ساغ إيرادها هنا حتى تكون حاضرة في الذهن حين الكلام عن السلفية في الفكر الغربي.
ذكر البعلبكي في المورد أن (Fundamentalism) تطلق على حركات تبلورت في القرن العشرين لدى البروتستانت، تؤكد على أن الكتاب المقدس معصوم عن الخطأ في العقيدة، والأخلاق، والأخبار، والغيبية، كقصة الخلق، ومجيء المسيح، والحشر الجسدي، واللفظة من (Fondamentail) التي تعني الأصلي أو الأولي وهي الأصولية.
ومن أبرز صفات الأصوليين، كما يرصدها كاتب غربي:
- تنزيه الإنجيل عن احتمال تسرب الخطأ إليه.
-ظاهرية التلقي لكلماته دون تأويل أو تحليل.
-التنكر لإنجازات العصر الحاضر في التصورات، والأفكار، خاصةً العلمانية.
- التشدد في التزام الدين، واعتبار النصارى الذين لايسلكون منهاجهم في التدين خارجين على الدين، وسعيهم لفرض الدين على المجتمع بالقوة.
ولهذا صارت الأصولية رمزاً ـ عند الغربي ـ للوحشية والإنغلاق، ومعاكسة تيار الحياة، والجمود أمام تطور الحياة .
وحينما تعالت حركة الالتزام بالإسلام لدى الشعوب المسلمة، وتجاوزت حدود التدين الفردي إلى السعي نحو صياغة الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية صياغة إسلامية، فيما أطلق عليه اسم الصحوة الإسلامية.
وكان مما قاد إلى اختلاف هؤلاء الإسلاميين لإصلاح الحياة ـ- إسلامياً- مع العلمانيين الذين يقفون في الخط المقابل، رافضين أن يداخل الإسلام الحياة وفق المدى الذي يريده الإسلاميون، سواءً أكان هؤلاء العلمانيون من الساسة الذين لايرون تطبيق شريعة الله، أم من المثقفين والمفكرين، أم من الإعلاميين، وكان من مسلمات الموقف الإسلامي رفض الفلسفات والفكر الغربي ـ المخالف للإسلام ـ ومقاومة حركة الحداثة التي تستهدف إبدال قيم الحضارة الغربية المعاصرة، بقيم الإسلام في التصورات والأخلاق.
لهذا أطلق الغرب على هذه الصحوة (Fundamentalism)،وترجمت بالأصولية، وعرف أصحابها بالأصوليين في مقابل العلمانيين.
وصار الإعلام الغربي، والعربي بالتبع، يتسقط المنتسبين للصحوة الإسلامية بفكرهم، أو بهيئتهم لحيةً وحجاباً، أو حتى بمجرد دعواهم، بل قد يدرجون أناساً في الصحوة وإن كانوا أبعد الناس عنها ـ صار يتسقطهم ـ ليسجل في صحيفة سوابقهم كل احتجاج يقومون به على صور الإنحراف، وكل مطالبة بالحكم بما أنزل الله، وكل اتهام موجه لأحدٍ منهم حتى يؤكد صدق تصوره.
ومع هذا فليست الصورة محصورة بهذا التصنيف:
إسلاميون كلهم أصوليون ـ مقابل العلمانيين ـ خاصةً في المجال الفكري.
لقد كان من آثار خبو وهج العلمانية في البيئات الإسلامية، أن أصبح هناك أسماء مختلفة كالإسلام التقدمي، وفكر الاستنارة الإسلامي، أو اليسار الإسلامي.
وصار هؤلاء يفسرون الإسلام على أنه قومية، أو مجرد قيم عليا ـ عدالة وجلباً للمصلحة ودراءً للمفسدة ـ للمسلم أن ينظم حياته على أساسها كيف يشاء.
أما أن الإسلام منهج حياة متكامل، وأن إسلامية الفرد والمجتمع لاتكتمل إلا بالتزامه بهذا المنهج عقيدةً وعبادةً ومعاملات فهم لا يقولون به وسموا مسلكهم هو (الدين العلماني) كما يقول حسن حنفي وأركون ونحوهم...
إلى أن صار التقسيم عندهم إلى قسمين:
إسلاميون أصوليون (متطرفون) ـ مقابل ـ تقدميين مفكرين إسلاميين مستنيرين .
ومما يشار إليه أن هناك سلفيات أقل حدة في موقفها من فلسفة العصور الحديثة بحيث لم تتنكر للعقل، ولقدرته المعرفية، وإنما أعطته مجالاً يعمل فيه، وهو العالم المادي مع صيانة الدين ممثلاً بعقائده، وطقوسه من تحليلات العقل التي قد تزدريها لقصورها عن هذه العقائد ـ كما يرى هؤلاء.
ولكن على الرغم من عدم موت الاتجاه السلفي، بل تواصل إنبعاثاته، إلا أنه لم يؤثر في تيار فكر عصر النهضة في أوروبا الذي تجاوز الدين، أو أنكره معتمداً على إبداعاته العقلية في صياغة شؤون الحياة، مستخدماً قانون التطور في مكافحة أي توجه سلفي، يرى أن الأصل السالف خير من الجديد الحادث.
أن السلفية لدى العصرانين العرب غير محددة المعالم بصفتها منهجية ذات قواعد ثابت متميزة، أو مذهبية ذات أصول راسخة محددة، بحيث يستطيع الناقد أن يحكم على المنتسبين إليها، والمتشبثين بشيءٍ من مقولاتها من خلال هذه القواعد والأصول، بصدق الانتساب من عدمه.
لقد انعكس الأمر لدى هؤلاء، فصار يحكم على السلفية نفسها من خلال المنتسبين إليها أو الآخذين بشيءٍ من مقولاتها، على أنهم يمثلونها، وبالتالي تتعدد تمثلاتها، فالمضمون متطور متغير والثابت هو الاسم (السلفية).
ومعلوم أن الناظر في السلفية من خلال هذا المنحى، سينتهي إلى أن: (مصطلح السلفية من المصطلحات التي يحيط بمضمونها الغموض، أو عدم التحديد).
وأنها صارت ـ كما يقول ـ أحدهم كالشبكة المعقدة (فيما تفرعت إليه من تيارات وفيما لحقها من التطورات الباطنة حتى لقد أصبح من الواجب أن نتساءل عن أي سلفية نتحدث وأياً من أطوارها نعني؟).
ــ المبحث السادس: تصورات خاطئة:
هناك من ينكر وجود أي سلفية لافي عصرنا ولافي عصور سالفة، معتبراً السلفية ظرفاً زمانياً في التاريخ الإسلامي قضى وانتهى، وبالتالي فليس منهجاً أو مذهباً يُعتصم به، أو ينتسب إليه.
معالم المنهج السلفي:
سنقتصر على أبرز المعالم التي يتبلور بها هذا المنهج بصفته قاعدة متميزة لإقامة الحياة الإسلامية فردية واجتماعية على النحو التالي:
1ـ مرجعية القرآن والسنة: هذا هو المعلم المنهجي الكبير الذي فارق به المنهج السلفي المناهج الأخرى عقدية وفكرية وسياسية، فالسلف يجعلون الوحي: قرآناً وسنة صحيحة المرجع الأول الذي يستمدون منه عقديتهم، ويستنبطون منه أحكام حياتهم، معتقدين أن ماجاء به هذا المصدر من أمور قطعية حق لاريب فيه، وأنها منزهة عن الخطأ والنقص غير متأثرين بتغير الزمان أو المكان، خلافاً للمصادر الأخرى عقلية أو حدسية أو كشفية.
والعصمة في هذا المنهج منفية عن كل من سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم من البشر مهما كان مقامه في العلم أو الدين.
ولكن توحيدهم لهذه المرجعية لايعني تنكرهم للتراث الإنساني السليم النافع فضلاً عن تراث أهل الإسلام، فهم يعظمون هذا التراث، ويعولون عليه، ويعتبرون أنفسهم امتداداً تاريخياً لأصحابه، ولكن تبقى مرجعيتهم العليا هي الكتاب والسنة.
وبالتزام هذا المعلم تختفي ظاهرة التعصب المقيت للآراء الخاصة والوجهات الذاتية والتي تسبب التفرق والتناحر بين الناس، لأن الاتفاق من الجميع على رد التنازع إلى مرجعية واحدة واضحة يُطِّهر الساحة الثقافية من تلك الأدواء، كما أن توحيدهم لهذه المرجعية لايعني تنكرهم للعقل، كلا إن العقل مصدر من مصادر العلم في المنهج السلفي، فهو الذي تُعرف الأحكام الشرعية من خلال مسالكه المشروعة قياساً وإعمالاً للقواعد الشرعية ونحوها غير أن المنهج السلفي يجعل العقل مصدراً تالياً للوحي.
2ـ الأخذ بالإسلام بخارطته الكاملة، وفق مراتبه المفصلة التي نظرها حديث جبريل المشهور حينما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان، فأجاب موضحاً أركان كل منها، ويعتمدون كل ماجاءت به الشريعة من شعب ومقتضيات لهذه الأصول الثلاثة.
3ـ التوحيد: وهو المعلم الموضوعي الكبير للمنهج السلفي ولهذا كان مدار جهودهم المتواصلة تاريخياً، وكان منطلق حركاتهم التجديدية..والتوحيد عند السلف ثلاثة أنواع:
أ ـ توحيد الربوبية.
ب ـ توحيد الألوهية أو توحيد العبادة.
ج ـ توحيد الأسماء والصفات.
بهذا التوحيد يحرر السلف أنفسهم ويسعون لتحرير الناس من العبوديات الزائفة التي خنقت حرية الإنسان، وعبدته لبشر مثله أو أقل منه:
سواءً كان ذلك عن طريق كهنوتية يجعل أصحابها أنفسهم وسائل بينهم وبين الله فيتوسل بهم الناس ويعبدونهم. أو عن طريق التحكم الطاغوتي بمصائر الناس بتسييرها وفق أهوائهم وتحقيقاً لمصالحهم الشخصية، إما بفصلها عن الله كلياً، أو بالتأله عليها في الجوانب الاجتماعية من خلال العلمنة التي تشطر الذات الإنسانية شطرين:
- شطره الفردي وهذا يتركونه لمزاجه الديني أو الغني ونحوهما.
- وشطره الاجتماعي الذي يفرضون عليه أن يعبدهم من خلاله بالتزام الأنظمة والقوانين التي شرعوها خارج إذن الله.
4ـ الشرك: وهو الخطر الماحق مما جعل التاريخ البشري صراعاً بينه وبين التوحيد. والشرك وفق المنهج السلفي هو كما قرره الوحي نوعان:
أ ـ شرك مدمر للتوحيد تماماً، ولذا يخرج صاحبه من الإيمان سواءً اعتقد أن الله شريكاً في الملك، أو وحد الله في ملكه وآمن، ولكنه أشرك في صرف شيء من أنواع العبادة لسواه.
وهذا الشرك لايغفر لصاحبه إذا مات عليه وإنما يخلد في النار (إن الله لايغفر أن يشرك به) .
ب ـ شرك أصغر من السابق، ورغم خطورته إلا أنه لايخرج من الإيمان ولكنه دليل على ضعف الإيمان ونقصه كالرياء اليسير في العبادة، وكالحلف بغير الله .. ونحو ذلك.
5ـ الدين والإيمان في المنهج السلفي: اعتقاد بالقلب وإعلام باللسان وعمل وتطبيق بالأعضاء مجتمعة مع بعضها، وهذا الإيمان يزيد وينقص. وهذا الإيمان لدى السلف أصلٌ وفرع، فإذا انحصر الأمر بإنكار وجود الله أو اعتقاد أن معه إلهً آخر، أو التكذيب برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ونحوها فقد بطل الإيمان تماماً.
أما الفروع المشتملة على الأعمال، فإن نقص شيء منها لايزيل الإيمان تماماً وإن أخل به، ولهذا لايكفر السلف أحداً من المسلمين بمطلق فعل المعصية، ولايقولون بخلوده في النار حتى ولو مات دون توبة منها.
6ـ الولاء في المنهج السلفي ديني، فهو ابتداء للحق وحده ومن ثم لكل من التزم الحق وعمل به، وعلى هذا المنطلق تذوب حزبيات العرق والعصبية والأقليم، ويكون الإيمان والعمل الصالح والتقوى هي معيار الولاء حباً ومظاهرة، وكلما زاد الإنسان من هذه الجوانب زاد توليه، وكلما نقص ضعف الولاء له، فإذا انسلخ منها وتحول عدواً لله ودينه انقلب ذلك الولاء براءً وبغضاً، لكن منطق هذا الولاء لايعني إلغاء الحقوق الولائية لدى الإنسان لأقاربه ولوطنه ونحو ذلك، ولكنها تأتي تالية لولائه لدينه وخاضعة له.
7ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: متلازم مع أصل شرعي وهو الحفاظ على الجماعة وتوقي حدوث مفاسد أعظم من المصالح المرتجاة، ولهذا اقترن هذا المعلم بالعلاقة بالأحكام، فإذا كانت بعض الفرق قد اتخذته وسيلة لنشر الفوضى في المجتمع المسلم، وسهلت من خلاله الإخلال بالأمن بالثورات المتواصلة على الحكام إذا ارتكبوا منكراً بحجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن المنهج السلفي يقرر هنا أن وجوبه قائم، ولكنه في إطار مسالك منتجة محققة للمصالح الشرعية، وأنه لايعني الخروج على الإمام المسلم إذا حدث منه فسوق أو اعتزاله والتنفير منه، بل المنهج السليم هو التعاون معه على الحق من تطبيق للشريعة، وجهاد في سبيل الله، والصلاة خلفه. أما ما يمارسه من منكر فلا يجوز مشاركته فيه، بل يجب نصحه بحسب القدرة وبالوسائل القائمة على المصلحة الشرعية.
8ـ ضبط العلاقة بين التوكل والأسباب: عبودية المسلم لله تعالى تتضمن مهمة أناطها الله بالإنسان وهي الخلافة في هذه الأرض، فالإنسان مستخلف فيها مسخرة له مخلوقاتها جماداً ونباتاً وحيواناً، فهو في جمعه بين العبودية لخالقه والسيادة الاستخلافية على الكون من حوله يستطيع تحقيق وجوده الإنساني الأسمى فردياً وحضارياً.
9ـ العبودية لله تعالى التي تقتضي التعويل عليه تعالى دعاءً واستعانةً وتوكلاً لاتعني إبطال السببية في حركة الكون والحياة الإنسانية. فلهذا الوجود أسباب يجري الله حركته على أساسها، فلا هي مستقلة بنفسها كما يزعم الماديون، ولاهي منكرة كما يتصور من يجعل القول بها شركاً بالله.
فالمؤمن يتعامل مع الأسباب، فيعالج المرض، ويطلب الرزق مع يقينه أن الله هو الشافي والرازق، وأنه لاتناقض بين الأمرين.
10ـ الوسطية والاعتدال: لما كان الإسلام دين الوسط والاعتدال، كان الملتزمون هديه هم الوسط المعتدل بين المنحرفين عنه، الدين لامحيد لهم عن أن يكون انحرافهم إلى جانب التفريط أو إلى جانب الإفراط. ولالتزام أهل السنة في هدي الإسلام ظل هذا المنهج قائماً على معيار الوسطية والاعتدال بين صور التطرف على مر العصور، ولهذا لاتجد قضية من القضايا العقدية التي اختلفت فيها فرق الأمة إلا والسلف الصالح فيها وسط بين طائفتين أخذ كل منهم بطرف مقابل للآخر، ممثلاً:
ـ في الإيمان، هم وسط بين جعل الأعمال أصلاً في الإيمان يكفر من أخل بشيءٍ منها، ومن نفي قيمة الأعمال في الإيمان تماماً.
ـ وهم وسط في صفات الله بين من عطلها من حقائقها، ومن شبهها بصفات الخلق.
ـ وفي الأسباب، هم وسط بين من يجعلونها مؤثرة بالاستقلال عن الله، ومن ينكرونها تماماً.
ـ وفي صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بين من ينكر فضلهم ويزدريهم ويبغضهم، ومن يغلو في بعضهم إلى درجة تأليههم وعبادتهم، وهكذا...
11ـ المنهج السلفي نتيجة لالتزامه الكتاب والسنة يرتبط فيه العلم بالعمل دون إنفكاك، وهو في هذا المعلم وسط بين منهج النظريين من الفلاسفة وأهل الكلام المستغرق في جدلهم ونظرياتهم التجريدية عن الممارسة العلمية، ومنهج بعض الزهاد والصوفية الذين اهتموا بالجانب التعبدي مع إهمال الجانب العلمي، فكر فيهم الضلال والبدع.
12ـ المنهج السلفي يربي أتباعه على أن يكونوا خير الناس لخلق الله، يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف ويرحمون عباد الله، ويحرصون على اجتماع كلمة المسلمين وتآلفهم على تعاليم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهم أبعد الناس عن تكفير الآخرين من مخالفيهم في اجتهاد أو في فهم خاطئ، يرحمون خلق الله ويدعونهم إلى الكلمة السواء والمنطق الحق الذي تقرره النصوص الشرعية، وهذا خلاف ماعليه عامة الفرق التي تكفر غيرها، وتتهجم على مخالفيها، وتتعصب لآرائها بغير هدى ولابيان.
13ـ الأخذ الشمولي لدين الإسلام في عقيدته وعباداته ومنهجه الخلقي ونظمه الاجتماعية في السياسة والاقتصاد والتعليم وسائر جوانب الحياة اتباعاً لقوله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لاشريك له) وهذا خلاف ماسلكته الفرق الأخرى التي جزأت الإسلام، وأخذ كل منها جزءاً ضخماً حتى جعله الإسلام كله وأهمل الأجزاء الأخرى الباقية، فقد جعله المتكلمون فلسفة فكرية في الوجود والمعرفة معزولة عن الجانب العملي، وجعله بعض الصوفية حالات وجد وفناء في الحب الإلهي حتى أضاعوا شعائره الكبرى، وقصّره أناس على العبادات الشعائرية صلاةً وصياماً وحجاً، وأخرجوا نظمه الاجتماعية.
ـ ختاماً :
يبقى منهج السلف بالمفهوم الذي ذكر سابقاً بأنهم أصحاب القرون المفضلة الأولى هو المنهج الصحيح للسلفية لما ذكر من مقومات فهم الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ ولماذكر من تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم لهم ، فكل ادعاء للسلفية يخالف ماعليه الصحابة فهو ادعاء باطل، حيث إن السلفية هي اتباع لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ ولايحسن أن يكون هذا المصطلح باباً لنزاعات وصدامات مع أحد ، ولاينبغي أن ترفع باسمه الشعارات ، أو توقد الخلافات ، حيث يبقى منهجاً واضحاً لمن أراد اتباع السلف لا حزبية ولاطائفية تفرق الأمة وتنخر في وحدتها .
**************************
المراجع:
*بتصرف من بحث قدمه الدكتور صالح بن حميد إلى ندوة جنادرية 25 (السلفية: المفهوم..المراحل..التحولات).
- معالم الانطلاقة الكبرى لعبدالهادي المصري ص51.
- المرجع السابق34.
- 27 ـ أنظر المورد، منير البعلبكي ص/303.
- جيمي بازا ــ نقلاً عن الغلو في الدين للمعلا 170.
أنظر: المورد ص: 715.
- أنظر: السلفية: وقضايا العصر للدكتور عبدالرحمن الزنيدي ص22 وما بعدها.
مجلة الحرس الوطني