شتيوي الغيثي
في مقال السبت الماضي كان الحديث حول قفزة فيليكس بوصفها حدثا ذا معنى يأخذ البعد التأويلي للعالم والوجود، وإرادة القوة كما يقررها نيتشه في إنسانه الأعلى توحي بمعنى من معاني تلك القفزة.
اليوم تأخذ التقنية بعدها ومعناها المتيافيزيقي في قفزة فيليكس، فمن المعروف أن هذا العصر عصر التقنية بامتياز، وميتافيزيقيا التقنية تعني أنها تفسير حسابي للعالم من خلال مفهوم «العقل الأداتي» كما يسميه هابرماس الذي كان سمة عصر الحداثة. وكون التقنية تفسيرا للعالم فإنه تنتقل من كونها آلة إلى كونها مابعد آلة أي أنها تخلق تصورا جديدا عن العالم كما تمارس نوعا من السيطرة الفكرية للإنسان وعلى الإنسان في استحلابه الطبيعة برؤية غاية في الاستهلاكية. المفكر المغربي محمد سبيلا يوضح فكرة عصر التقنية بقوله: «عندما نقول بأن هذا العصر هو عصر التقنية فليس ذلك لأنه عصر حافل بالآلات والتقنيات وطافح بمظاهر التقدم التكنولوجي، بل لأن الأشياء والتقنيات والمخترعات هي التي تستقي وتأخذ دلالتها من الماهية التقنية للعصر الحديث. وسيطرة ماهية التقنية تعني سيطرة القوة وإرادة القوة بل إرادة الإرادة أي إرادة القوة الخالصة التي لا تستهدف إلا الفعالية والتأثير والتصريف المستمر، اللامحدود للقوة، كأفق دلالي للعصر الحديث برمته».
وعند الحديث عن التقنية فإنه لابد من استحضار الفيلسوف مارتن هيدجر بوصفه أحد أهم الفلاسفة الذي كانت التقنية بالنسبة لديه معنى وجودي في مقابل التصور الميتافيزيقي للتقنية لدى إنسان العصر الحداثي . يعتبر هيدجر أن التقنية الحديثة ليست مكتفية بطابع الإنتاج كما في العصور اليونانية القديمة بل هي أقرب إلى تحريض الطبيعة على أن تتحول إلى طاقة مخزونة، وماهية التقنية الحديثة هي في معرفة طريقة آليتها العملية في خلقها وإخضاعها الطبيعة بما فيها الإنسان إلى ميتافيزيقيها.
التقنية ليست تلك الآلات المباشرة التي يستخدمها الإنسان، بل هي أبعد من ذلك. إنها تصور جديد للمحيط من الحياة، فكما أن الإنسان استطاع القبض على بعض أسرار الوجود فإنه حوله إلى رؤية استهلاكية من خلال محاولة إخضاع هذه الطبيعة إلى القدرة البشرية التي تعتمل إرادة القوة عنده إلى أبعد مداها. يأتي فيليكس بوصفه مجسد تلك الإرادة من خلال قفزته المشهورة من حافة الفضاء إلى الأرض متجاوزا سرعة الصوت من خلال العقل الأداتي الذي مارس الرؤية الحسابية الخالصة ليمكن فيلكس من قفزته بمساعدة التقنية نفسها. تلك التقنية التي رفعته إلى أبعد نقطة في الغلاف الجوي للكرة الأرضية، ولباس خاص مورست فيه كل أدوات العقل التقني ليتجاوز من خلاله سرعة الضوء. هنا يأتي التحدي الإنساني للطبيعة وهنا تأتي التقنية بوصفها العامل الذي من خلاله يتم تفسير العالم، ومن خلاله يتم تغييره كذلك. التقنية هنا لا تكتفي بمفهوم الإنتاجية المباشرة، بل تتعداه إلى صناعة وجود الإنسان ذاته في شكل من أشكاله، ولم كان هيدجر قليلا من أن يصنع الإنسان وجوده من خلال التقنية ويبدو أن تخوفه كان في محله حيث إن الإنسان الحديث غامر بفكرة الاستنساخ، وهنا تتحول التنقية من كونها آلية إنتاجية إلى كونها تصورا جديدا تفرض على الإنسان معطياتها الخاصة، فتتحول إلى مخضعته في الوقت الذي كان يريد إخضاعها..
فيليكس عندما غامر بتلك القفزة فلأن العصر الحديث هو عصر إرادة القوة التي تمنحها التقنية بوصفها طوباوية الإنسان الحديث الذي يتصور قدرته على إخضاع الحياة من حوله لإرادته البشرية.