د.فهد إبراهيم الشثري
إذا كان من ظاهرة تميز الاقتصاد العالمي منذ بدء الأزمة المالية العالمية فهي حجم السيولة التي تقوم بضخها البنوك المركزية العالمية، في وسيلة غير تقليدية للسياسة النقدية للتعامل مع ظاهرة تراجع النمو الاقتصادي العالمي. ففي حالة التيسير الكمي كالتي يقوم بها ''الاحتياطي الفيدرالي'' حالياً، فيما يسمى QE3، تكون هناك عملية ضخ للمزيد من المعروض النقدي، ما يؤدي إلى زيادة احتياطيات البنوك التجارية ومن ثم يزيد من حجم السيولة في الاقتصاد. السؤال: لماذا يعمد البنك المركزي إلى القيام بذلك؟ الهدف الرئيس من التيسير الكمي هو حفز الاقتصاد، وليس التعامل مع مشكلة سيولة، وذلك من خلال تغيير آليات عمل قوى السوق المختلفة. في السوق هناك سندات خزانة قصيرة وطويلة الأجل، وهناك منحنى للعائد يكون عادة متزايدا، بمعنى أن العائد يزداد كلما زاد أجل السندات، والتيسير الكمي يهدف إلى تغيير شكل هذا المنحنى.
في الحالة الطبيعية، يتم تنفيذ السياسة النقدية بتحديد معدل مستهدف للفائدة، ومن ثم يقوم ''الاحتياطي الفيدرالي'' من خلال ما يسمى عمليات السوق المفتوحة بشراء وبيع السندات قصيرة الأجل بهدف الوصول إلى هذا المعدل، لكن في الوضع الحالي، فإن معدل الفائدة منخفض جداً، لكن مع ذلك فهناك مشكلة في أن هذا المعدل لا يؤدي إلى تحفيز الاستثمار، إنما يؤدي بمالكي رأس المال إلى الاحتفاظ بالسيولة لآجال طويلة لأن العائد أفضل والمخاطرة أقل. السياسة النقدية في هذه الحالة تكون أقل فاعلية، لأن البنك المركزي لا يستطيع تخفيض الفائدة أكثر مما هي منخفضة، وهنا يكون الاقتصاد قد وقع فيما يسمى مصيدة السيولة Liquidity Trap. وعندما يكون الاقتصاد قد استنفد وسائل التحفيز المالية، وعندما يكون العجز في الموازنة وحجم الدين كبيراً، فيكون هناك حاجة إلى اللجوء إلى أدوات غير تقليدية للسياسة النقدية لتحفيز الاقتصاد، مثل عملية التيسير الكمي.
تتم عملية التيسير الكمي بشراء السندات طويلة الأجل، ما يؤدي إلى زيادة سعرها، وتخفيض العائد عليها، وبالتالي يخفض من الحافز لوضع السيولة الموجودة في السوق في أدوات استثمار طويلة الأجمل، ويحفز المستثمرين لاستثمارها في أصول حقيقية للحصول على عائد أكبر. وعلى عكس عمليات السوق المفتوحة الكبيرة، فهي تتم دون تحديد لمعدل الفائدة، إنما بتحديد قيمة حزمة التيسير الكمي التي ستتم على فترات محددة. في الوضع الحالي يقوم ''الاحتياطي الفيدرالي'' بعملية التيسير الكمي الثالثة، كما يقوم بذلك كل من البنك المركزي الياباني، كما يقوم بذلك بنك إنجلترا، وسيقوم البنك المركزي الأوروبي بعملية مشابهة، لكن لشراء السندات السيادية لخفض ضغوط الأسواق عليها، لكنها في الأخير ستؤدي إلى سيولة أكبر في الأسواق.
على الجانب الآخر، ستواجه دول الاقتصادات الناشئة مشكلة التعامل مع هذه السيولة الضخمة التي ستتدفق إلى اقتصاداتها، وذلك بسبب بحث المستثمرين عن عائد أكبر. بالطبع ليس كل تدفق رأسمالي ذا عائد إيجابي على الاقتصاد، خصوصاً إذا كانت طبيعته قصيرة الأجل؛ نتيجة ذلك سيكون ارتفاعا في أسعار صرف عملات هذه الدول، وانخفاض تنافسية منتجاتها، في مقابل رخص منتجات الدول التي تتبنى عملية التيسير الكمي، وزيادة تنافسية صادراتها. وهذا بالطبع ما يجعل الكثير من دول الاقتصادات الناشئة تتخذ إجراءات مضادة لذلك من خلال فرض القيود على تدفقات رأس المال، وهو ما حدا بوزير مالية البرازيل القول إن الحزمة الثالثة من التيسير الكمي لـ''الاحتياطي الفيدرالي'' الأمريكي هو عبارة عن إعلان حرب عملات.
بمعنى آخر أننا نعود الآن إلى المربع الأول من المشكلة، حيث تكرر هذا المشهد عام 2010، فمن جهة لا تجد الدول المتقدمة وسيلة لمعالجة أوضاعها الاقتصادية المتردية إلا من خلال البحث عن مصادر نمو خارجية، ومن خلال زيادة تنافسية منتجاتها، في حين تجد الاقتصادات الصاعدة أن ذلك يمثل تهديداً لمصالحها الاقتصادية، وسيمثل ضربة لاقتصاداتها. وليس هناك من سبيل إلى حل هذه القضايا إلا بالجلوس على طاولة حوار بين المجموعتين، لكي يكون هناك فهم مشترك لهذه القضايا وللحدود التي يمكن أن يذهب إليها كل جانب في التعامل مع قضايا محلية الطابع، لكن لها تأثيرات في المستوى الدولي.