الشيخ عبدالرحمن السديس
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أدخرها ليوم كان شره مستطيرا، وأشهد أنَّ نبيينا محمداً عبدالله ورسوله، بعثه بين يدي الساعة هادياً ومبشراً نذيرا، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، وجزاه عن أمته ودعوته جزاء وفيرا.
أما بعد، إخوتي القرَّاء أوصيكم ونفسي بتقوى الله جلَّ وعلا، فعليكم بتقوى الله – رحمكم الله – اتقوه سبحانه في أنفسكم، وأسركم وأهليكم، اتقوه في أولادكم ورعاياكم، ومن تحت أيديكم، اتقوه يقيكم، ويغنيكم، ويهديكم.
إخوتي أرأيت بماذا يقاس تقدم الأفراد والمجتمعات؟ وبأي معيار يوزن رقي الشعوب والبيئات؟ وعلى أي أساس تبنى الأمجاد وتشاد الحضارات؟ كل ذلك لا يتم إلا بالعناية الفائقة بموضوع في غاية الأهمية، موضوع هو هاجس العلماء والمربين، وقضية الدعاة والمصلحين، وهمُّ المفكرين والغيورين، وقبل ذلك وبعده: هو أمنية الآباء والأمهات، والعملية الكبرى للمدرسين والمدرسات، والمربين والمربيات، كما أنه مطلب ملح لدى الدول والحكومات. كم بذلت من أجله أزمنة وأوقات! وكم دعم بكثير من الإمكانات والقدرات! كم صرفت لتحقيقه جهوداً! وكم أنفقت في سبيله أموالاً بلا حدود! وليس ذلك بكثير على موضوع متى ما تحقق في أمَّة، عزت وسادت، وأفلحت وقادت، وإذا أهمل حلَّ فيها الفساد والدمار، وحصل لها الخراب والبوار، حينذاك قل: على الأمة العفاء، وسطر على أنقاضها عبارات العزاء.
أتدرون إخوتي ما ذلكم الموضوع المهم؟ إنه «موضوع التربية» وكفى بها من مهمة، وأعظم بها من أمانة ومسؤولية!
إخوتي القراء إنَّ مسؤولية تربية الأجيال، وإعداد النساء والرجال مسؤولية عظمى، وإن قضية العناية بفلذات الأكباد وثمرات الفؤاد من النشء والأولاد قضية كبرى، يجب على أهل الإسلام أن يولوها كل اهتمامهم؛ لأن مقومات سعادتهم أفراداً ومجتمعات منوطة بها، ولذلك فإنه لابد من الإعداد لها أيما إعداد، رسماً للمناهج، وإعداداً للخطط، وتضافراً في الجهود، وتولية للأكفاء لتتم العملية التربوية سليمة من تعثر الخطا بعيدة عن التناقض والازدواجية، مجانبة للتقليد والتبعية، اعتزازاً بشخصيتنا الإسلامية، وشموخاً في مناهجنا الشرعية، مترسمين هدي القرآن الكريم، ونهج السنة النبوية.
إخوتي القراء إنَّ ضرورتنا للتربية الإسلامية من أعلى الضرورات، وحاجتنا إليها أشد إلحاحاً من كل الحاجات، فما قيمة الأجساد والأبدان بلا قيم ولا أديان؟ وما قيمة الصور والأشباح بلا عقول ولا أرواح؟ وهل تغني القوالب إذا فسدت القلوب؟ في الأجساد تشترك كل الكائنات وفي البحث عن الطعام والشراب تشارك الإنسان فصائل الحيوانات، وفي الحاجة إلى الغذاء والهواء يشترك المؤمنون والكفار، والأبرار والفجار، والأخيار والأشرار، ولكن بالمبادئ والقيم، بالتربية والتعليم، بالعقيدة والإيمان: يستقل أهل الإسلام.
إخوتي القراء كم تعاني المجتمعات البشرية اليوم من مصائب وحوادث؟ وكم تجرعت من ويلات وكوارث؟ لماذا ارتفعت معدلات الجرائم بما يذهل العقول؟ لم يكن ذلك ليحدث إلا لما أهملت قضية التربية، وما تفشى الظلم والطغيان والفساد إلا لما أسيئت تربية الإنسان، وانحرفت أخلاقياته، وانجرفت سلوكياته في مهاوي الردى والضياع. لقد خلفت خلوف ووجدت أجيال بعد أجيال، منتكسة الفطرة، معدومة التربية لا تعرف حقوق الله، ولا حقوق عباد الله، لا يحملون رسالة، ولا يحققون هدفا ولا غاية، لا يعرفون معروفاً، ولا ينكرون منكراً، حياتهم لهو وبطالة، وأحوالهم شر وغواية، في الرذائل غارقون، وللفضائل تاركون، لا خير فيهم للبلاد والعباد، فأي جناية على المجتمع أعظم من هذه؟
إنَّ وجود أجيال في معزل عن التربية الحقة جريمة في حق المجتمع، وجناية على الأمة بأسرها؛ كم اشتكت المجتمعات من انحراف الأحداث! وكم اشتكى الآباء من تمرد الأبناء! وكم عانى الوالدان من العقوق، وإهمال أبنائهم في أداء الحقوق، متناسين أن مكمن الداء في هذه المشكلات كلها هو سوء التربية!
لذلك كان حقا على أهل الإسلام: أن يقوموا بمسؤولياتهم في تحقيق هذا الأمر بكل ما أوتوا من إمكانات، وأن تتكاتف في ذلك جميع القنوات: البيت والأسرة، الوالدان والأقارب، المدارس والجامعات، المساجد والمنتديات، المجتمع بكافة فئاته، وسائل الإعلام بشتى قنواتها، الكل يجدّ في التربية والبناء وغرس القيم والأخلاق في البنات والأبناء ليخرج جيل مثالي من الرجال والنساء.
إخوتي القراء لقد عني ديننا الإسلامي بقضية التربية عناية كبيرة لم تشهد المجتمعات البائدة والمعاصرة لها مثيلا، عناية لم تقم بها الأنظمة التربوية شرقيها وغربيها، بعيداً عن الفلسفات المعقدة، والأفكار الملوثة، فأبدع الإسلام، وأخفقت جهود المفتونين بأعدائه، وسطع نور الهداية على البشرية، وأظلمت حياة المعرضين عن طريق الهداية الربانية، وإن انتفشت ألقابهم، وخدعوا السذج بمعسول كلامهم بدعوى المعاصرة والتجديد، والحق أن كل النظريات التربوية هي في معزل عن هدي القرآن والسنة والنبوية، إنها إفلاس ما بعده إفلاس، فماذا قدمت للبشرية إلا الضياع والدمار، حين استجارت من الرمضاء بالنار؟! ولا منقذ لأجيال العالم إلا بالتربية على الإسلام، حيث الهدف السامي، وهو تحقيق العبودية لله الواحد القهار، وتسخير كافة الجوانب لخدمة هذا الأصل الأصيل، وكذا تربية الأجيال على أنهم حملة عقيدة، وأرباب هدف وغاية، وأصحاب إيمان وخلق، يتجلى ذلك في معاملاتهم وتصرفاتهم كافتها.
إخوتي القراء حينما نقف بعض الوقفات مع أهم القنوات المسؤولة عن التربية في المجتمعات، نرى أن البيت هو القاعدة الأساسية للتربية، والأسرة هي النواة الأولى في القيام بالعملية التربوية، ويبدأ ذلك من اختيار الزوجة الصالحة ذات المنبت الحسن، والمعدن النفيس حيث تعد الزوجة لتكون مربية فضلى، ومدرسة أولى، ويتدرج ذلك حتى يفتح الطفل عينيه في أحضان أبويه؛ ليجد العناية المعنوية، والتربية الإيمانية، قبل العناية المادية انطلاقاً من واجب الإسلام في ذلك يقول تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا قوآ أنفسكم وأهليكم نارا)) – التحريم (6).
قال أهل العلم: «أي علموهم وربوهم وأدبوهم بما يكون وقاية لهم من عذاب الله»، وتلك أمانة عظيمة، الويل كل الويل لمن خانها، يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).
في البيت يتعلم الطفل وهو في مدارج صباه ما يكون عليه أبواه فهما القدوة له، يتأسى بأفعالهما، ويقتدي بأقوالهما وأعمالهما، لذلك فإن مسؤولية الأبوين في توجيه الابن عظيمة. يقول صلى الله عليه وسلم في بيان عظيم تأثير الأبوين على ابنهما: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه)، وروى الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما نحل والد ولده أفضل من أدب حسن)، وقال عليه الصلاة والسلام: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرِّقوا بينهم في المضاجع).
هذه توجيهات تربوية للبيت المسلم، حيث يتربى النشء فيهم على العقيدة والفضائل، وكما يتروى من الزاد الحسي، بل أكثر، ومن هنا فإن كثيراً من الآباء والأمهات يخطيء حينما يقصر التربية على إشباع الرغبات، والتركيز على الماديات.
فيا أيها الآباء والأمهات اتقوا الله في أولادكم، كونوا قدوة لهم في الخير، نشِّئوهم على العناية بكتاب الله، والاهتمام بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، اسلكوا في تربيتهم منهج الإسلام، تحلوا بالرفق في معاملتهم، والحزم عند تكرار أخطائهم، وحذار أن تظهروا أمامهم بمظهر غير لائق، عودوهم على فعل الخير للغير، والتخلق معهم بأحسن الأخلاق، عودوهم عفَّة اللسان، والبعد عن السباب والشتائم، وقول الزور والبذاءة ونحوها. إياكم أن يطلع الأولاد على الخلافات بينكم! لما يجره ذلك من ضرر على نفسياتهم، وتحطيم لمعنوياتهم.
وإياكم ثم إياكم أن تكلوا عملية تربيتهم للخادمين والخادمات! فهم ضرر على الأسرة، لما يحملونه في الغالب من أفكار وعادات وأخلاق ثبت في الواقع خطرها، وثبت لدى كل غيور شرها وضررها. أبعدوهم عن قرناء السوء، تابعوهم في صلواتهم وخلواتهم، تابعوهم مع من يمشون؟ ومن يصاحبون؟ ماذا يقرؤون؟ وماذا يسمعون؟ وماذا يشاهدون؟ كوِّنوا الرقابة المكثفة المقرونة بمشاعر المحبة والحنان والشفقة، فالراعي الفطن لا يهمل رعيته في أرض المسبعة.
حذار أن تتسلل إلى الأسر – باستئذان أو بغيره – ألوان من الغزو الفكري والخلقي فتهدم ما بنيتموه، وتنقض ما شيدتموه، نشِّئوهم على الفضيلة والبعد عن الرذيلة:
وينشأ ناشيء الفتيان منا *** على ما كان عوّده أبوه
ادعوا الله لهم دائماً بالهداية والصلاح، كما كان أنبياء الله عليهم صلوات الله وسلامه:
فهذا الخليل عليه السلام يقول: ((رب هب لي من الصالحين)) الصافات، ((واجنبني وبني أن نعبد الأصنام)) إبراهيم، ويقول: ((رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي)) إبراهيم (40).
وهذا زكريا عليه السلام يقول: ((رب هب لي من لدنك ذرية طيبة)) آل عمران(38)، وما قيمة الذرية، إن كانت غير طيبة، والعياذ بالله؟
وهذا لقمان الحكيم في وصاياه المشهورة لابنه الواردة في سورة لقمان.
وهذا نبيكم محمد وقدوتكم محمد صلى الله عليه وسلم في توجيهاته وتربيته للشباب قولاً وفعلاً.
علموهم آداب الطعام والشراب والمنام، والمخالطة والمساجد، فاتقوا الله أيها الآباء والأمهات تابعوا أبناءكم، فإنهم أمانة في أعناقكم، واحذروا من ترك الحبل لهم على الغارب.
أخي القارئ المبارك إذا سألت عن القناة الثانية في تنشئة الأجيال في ظلال التربية على الإسلام وجدتها «المدرسة»، حيث يبرز دورها التربوي، فما ظنك بمكان يقضي فيه الشاب شطر يومه، ويمارس فيه ألواناً من الأعمال؟ لا شك ولا ريب أنَّ المدارس ثغور مهمة، وقلاع حصينة، يجب أن يقوم المسؤلون عنها بواجبهم حق قيام، تعليماً وتربية وإصلاحاً.
فيا أيها المدرسون والمدرسات اتقوا الله فيما حملتم من أمانة تعليم أبناء المسلمين، كونوا قدوة لهم في الخير، نشِّئوهم على حب التربية والتعليم، امزجوا بين العمليتين كلتيهما، وكوِّنوا الجسور المتواصلة بين المدرسة والأولياء؛ ليتحقق صلاح الأبناء بإذن الله. حذار أن تخالفوا أقوالكم بسلوككم وأفعالكم! لا ير الطلاب منكم أمراً محرماً، فوالله لا ينفع العلم بدون أدب ولا خلق ولاتربية.
وحين يأتي دور المسجد إخوتي القرّاء نجده واحة الأمن والأمان، والراحة والاطمئنان، ويتعلم فيه الناس التلاوة والصلاة، والذكر والدعاء. ولا ريب أن للمساجد والمدارس دوراً كبيراً في التربية، فهي معاقل حصينة، وقلاع عتيدة، وثغور مهمة، حيث إنها تشع نوراً وإصلاحاً في المجتمع بأسره.
أما وسائل الإعلام فمسؤوليتها من أعظم المسؤوليات، لا سيما في هذا العصر الذي هو عصر الإعلام وكفى، فالواجب استثمار هذه الوسائل بالتربية والتنشئة لأجيال المسلمين؛ لأنها دخلت كل بيت، وعمت كل مدينة وقرية، فاستثمارها في الخير متعين، وفي نشر الفضيلة متحتم، وما أخال المسؤولين عنها إلا على دراية بذلك، وحدّث ولا حرج، عما تموج به القنوات الفضائية، والشبكات المعلوماتية، ممَّا يفسد التربية، مما يتطلب وعياً عميقاً، وحذراً شديداً.
بيد أنَّ هناك إخوتي القراء جزئية لها أهميتها الخاصة في هذه القضية التربوية العامة، ألا وهي العناية بتربية المرأة: بنتا، وأختا، وزوجة، لا سيما تنشئتها منذ الصغر على الفضيلة والحياء ولله در القائل:
من لي بتربية النساء فإنها***في الشرق علة ذلك الإخفاق
ربوا البنات على الفضيلة إنها***في الخافقين لهن خير وثاق
الأم مدرسة إذا أعددتها***أعددت شعباً طيب الأعراق.فما عانت مجتمعات اليوم من المظاهر المحرمة، والمناظر المثيرة، إلا لمَّا أهملت تربية المرأة، وما عمَّت الفتنة بمظاهر التفسخ، والتبرج، والتبذل، والسفور، والاختلاط، إلا لمَّا أهملت تربية المرأة. فليتق الله القائمون على النساء من الأزواج والآباء، فليؤدبوهن، ويأخذوا على أيديهن، ويلزموهن بالقرار في البيوت، والحجاب الشرعي، حتى لا يَفتِنَّ، ولا يُفتَنَّ، فيأتين على بنيان التربية من القواعد.ومن الخطأ كل الخطأ، والخيانة في الأمانة: إهمال المرأة، والانسياق وراء طلباتها دون سؤال عن حلال أو حرام، ودون رقيب أو حسيب، في لباسها وسائر اهتماماتها، وقد وصل الحال ببعض الناس أن يعمد إلى جلب الصور الفاضحة، والمظاهر المحرمة، والوسائل المثيرة، فيتركها بين أبنائه وبناته.
ألقاه في اليم مكتوفاً، وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء.
فليتق الله الجميع فيما ائتمنوا عليه، وليقوموا بواجب التربية، كل في مجاله يصلح الحال، ويسعد المجتمع بإذن الله.
وصلى الله وسلم على نبيه محمد، وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
--------------
إمام وخطيب المسجد الحرام