إن الحمد لله تعالى، نحمده، ونستعين به، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهدِ الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هاديَ له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فلقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من الجلوس في الطرقات لأنه عليه السلام يدرك خطورة تلك المجالس التي كثيرًا ما ترتكب فيها الحماقات وتدبر فيها المؤامرات، بل وتتردد فيها الإشاعات وتنتهك فيها الحرمات، لذلك حذرهم خوفًا عليهم وتحصينًا لهم ضد أهوائهم وغرائزهم النفسية التي قد تعيدهم إلى ما كانوا عليه في الجاهلية التي أنقذهم منها الله سبحانه وتعالى ولكنهم عندما حذرهم طمأنوه بأنهم لم يجلسوا من أجل هدف دنيوي أو شيطاني، وإنما قد جلسوا من أجل هدف ديني.
كما في حديث أبي طلحة رضي الله عنه قال: كنا قعودًا بالأفنية نتحدث فيها فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام علينا فقال: «مَا لَكُمْ وَلِمَجَالِسِ الصُّعُدَاتِ اجْتَنِبُوا مَجَالِسَ الصُّعُدَاتِ» فقلنا: إنما قعدنا لغير ما بأس، قال: «إِمَّا لاَ فَأَدُّوا حَقَّهَا غَضُّ الْبَصَرِ وَرَدُّ السَّلاَمِ وَحُسْنُ الْكَلاَمِ».
تعريف الطريق:
الطَّرِيقُ فِي اللُّغَةِ:
السَّبِيل - يُذَكَّرُ، وَيُؤَنَّثُ. بِالتَّذْكِيرِ جَاءَ الْقُرْآنُ: ﴿فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا﴾، وَيُقَال: الطَّرِيقُ الأَْعْظَمُ كَمَا يُقَال: كَمَا يُقَال الطَّرِيقُ الْعُظْمَى.
الطريق فِي الإِْصْلاَحِ:
لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَيُطْلَقُ عَلَى النَّافِذِ، وَغَيْرِ النَّافِذِ، وَالْوَاسِعِ وَالضَّيِّقِ، وَالْعَامِّ، وَالْخَاصِّ.
والطَّرِيقُ قَدْ يَكُونُ عَامًّا، وَقَدْ يَكُونُ خَاصًّا: فَالطَّرِيقُ الْعَامُّ: مَا يَسْلُكُهُ قَوْمٌ غَيْرُ مَحْصُورِينَ، أَوْ مَا جُعِل طَرِيقًا عِنْدَ إِحْيَاءِ الْبَلَدِ، أَوْ قَبْلَهُ، أَوْ وَقَفَهُ مَالِكُ الأْرْضِ لِيَكُونَ طَرِيقًا، وَلَوْ بِغَيْرِ إِحْيَاءٍ.
وَإِنْ وُجِدَ سَبِيلٌ يَسْلُكُهُ النَّاسُ عَامَّةً، اعْتُمِدَ فِيهِ الظَّاهِرُ وَاعْتُبِرَ طَرِيقًا عَامًّا، وَلاَ يَبْحَثُ عَنْ أَصْلِهِ.
أَمَّا بِنْيَاتُ الطَّرِيقِ - وَهِيَ الْمَمَرَّاتُ الْخَفِيَّةُ الَّتِي يَعْرِفُهَا الْخَوَاصُّ - فَلاَ تَكُونُ بِذَلِكَ طَرِيقًا.
مما ينطبق عليه حكم الطريق في الحاضر:
الطرقات المقصودة بأحكام وآداب الطريق - كما سبق - ليست هي الطرق فقط، بل تشمل أماكن عدة، فمنها الجلوس على الأرصفة، ومنها الجلوس على أبواب المحلات والدكاكين، ومنها الجلوس في الأسواق أمام الذاهب والآيب، ومنها الجلوس على قارعة الطريق في الشوارع والأزقة، ومنها ركوب السيارة، فكل هذا يدخل في معنى الطرقات، وينطبق عليه أحكام الطريق.
حكمة النهي عن الجلوس في الطرقات:
النهي عن الجلوس بالطرقات سدا للذرائع:
الطريق مرفق عام، ومن حق كل شخص الاستفادة منه دون أن يتعرض للأذى أو المضايقة من أحد، بل إذا احتاج للعون والنجدة وجدهما من إخوانه بدون مقابل، وفي نهي الشرع عن الجلوس في الطرقات سد للذريعة إلى المحرم، فإن الجلوس في الطرقات مظنة النظر إلى من يمر من النساء الأجنبيات، وتعمد النظر إليهن حرام وذريعة إلى الافتتان بهن؛ وهذا من علل النهي عن الجلوس في الطرقات.
حال الطرقات اليوم:
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجلوس بالطرقات في زمان كانت العفة فيه طبعا لأهله، وفي قوم لا يُنتظر منهم إلا كل خير، واليوم تجد جميع الطرقات والأمكنة مليئة بالشباب الضائع، يتصيدون النساء، وبالذات طالبات المدارس بعد انصرافهن، فتجد الأرصفة ملأى بهؤلاء الشباب الذين لم يعطوا أي حق للطريق، فأطلقوا البصر بدل غضه، وآذوا النساء بدل كف الأذى، وأمروا بالمنكر بدل أن يأمروا بالمعروف، فهؤلاء يحرم عليهم المكث في الطرقات، ويأثمون ببقائهم فيها؛ لأنهم لم يعطوا الطريق حقه، فمثلا هناك بعض الذين يجلسون عند أبواب محلاتهم سواء كانت معارض أو مكاتب عقار أو بقالات، فهؤلاء يؤذون جيرانهم بجلوسهم أمام بيوتهم، يتابعون بنظراتهم الداخل والخارج، وينظرون إلى نوافذ الجيران، ويضحكون ويقهقهون بأعلى أصواتهم، مما يؤذي جيرانهم؛ وهم مع ذلك لا يكفون عن هذا الفعل الشنيع الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فالذي لا يستطيع أن يغض بصره عن المحارم، ولا يكف أذاه عن الناس فليلزم داره، ولا يبرحه؛ فهو خير له من الإثم والمقت.
من آداب الطريق:
وفيما يلي عدد من آداب الطريق حسب ما أرشدت إليه السنة النبوية، ويقتضيه الصالح العام، فمن ذلك:
غض البصر:
قد أمر الله تعالى به الرجال والنساء على السواء، فقال عز من قائل: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾.
إن الإسلام بهذا التشريع الحكيم يريد أن يقطع الداء من أصله، فقد حرم الزنا، وحرم كذلك الطرق الموصلة إليه، وأعظمها النظر لذلك، سئل صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فقال: «اصرف بصرك»، وقال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: «يا على! لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة». أي: «لا تنظر مرة ثانية لأن الأولى إذا لم تكن بالاختيار فهو معفو عنها فإن أدام النظر أثم».
وَفِي التَّبْصِرَةِ: كَانَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ عليه السلام يَقُولُ: «النَّظْرَةُ تَزْرَعُ فِي الْقَلْبِ الشَّهْوَةَ وَكَفَى بِهَا خَطِيئَةً».
وَقَالَ الْحَسَنُ رضي الله عنه: مَنْ أَطْلَقَ طَرْفَهُ كَثُرَ أَسَفُهُ.
قال ابن تيمية رحمه الله: «تعمد النظر يورث القلب علاقة يتعذب بها الإنسان، وإن قويت حتى صارت غرامًا وعشقًا زاد العذاب الأليم، سواء قدر أنه قادر على المحبوب أو عاجز عنه، فإن كان عاجزًا فهو في عذاب أليم من الحزن والهم والغم، وإن كان قادرًا فهو في عذاب أليم من خوف فراقه، ومن السعي في تأليفه وأسباب رضاه».
وَقَالَ الإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ الدَّاءِ وَالدَّوَاءِ: أَمَّا اللَّحَظَاتُ فَهِيَ رَائِدَةُ الشَّهْوَةِ وَرَسُولُهَا، وَحِفْظُهَا أَصْلُ حِفْظِ الْفَرْجِ، فَمَنْ أَطْلَقَ بَصَرَهُ أَوْرَدَهُ مَوَارِدَ الْهَلَكَاتِ.
وقبل غض البصر أمر الله النساء بالاحتجاب عن الرجال، وإذا خرجن فليخرجن كما أمر الله تعالى: ﴿ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ...﴾ الآية.
ولا تخرج المرأة المسلمة إلا للضرورة، وإذا خرجت فلتخرج محتشمة في لباسها ومشيها، بعيدة عن حركات الريبة ومواضع التهم، غير متعطرة ولا متلفتة، حذرة كل الحذر من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا اسْتَعْطَرَتِ الْمَرْأَةُ فَمَرَّتْ على القوم لِيَجِدُوا رِيحَهَا فهى زَانِيَةٌ»، أي: هي بسبب ذلك متعرضة للزنا ساعية في أسبابه فسميت لذلك زانية.
وهذا يدل على خطورة هذا العمل، وفيه دليل على سد الذرائع؛ لأن هذا من سد الذرائع، فكون المرأة تتعطر هذا ذريعة إلى الفتنة بها، وإلى رغبة الرجال السفهاء بها بحيث يطمعون بها ويحاولون الوصول إليها؛ لأن مثل هذا العمل يمكن أن يستدل به على أنها فعلت ذلك لأنها ترغب أن تراود أو أن يتصل بها.
كف الأذى:
أما كف الأذى الوارد في الحديث الشريف أنه من حقوق الطريق، فهو إماطة الأذى وإزالته عن الطريق إن وجد من غيرك، قال صلى الله عليه وسلم: «نَزَعَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَط غُصْنَ شَوْكٍ عَنِ الطَّرِيقِ إِمَّا كانَ في شَجَرَةٍ مُقَطَّعَةٍ فَأَلْقَاهُ، وَإِمَّا كانَ مَوْضُوعًا فَأَمَاطَهُ فَشَكَرَ الله لَهُ بِهَا فَأَدْخَلَهُ الجَنَّةَ». وفي لفظ عند أحمد رحمه الله : «دَخَلَ عَبْدٌ الْجَنَّةَ بِغُصْنِ شَوْكٍ عَلَى ظَهْرِ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَاطَهُ عَنْهُ».
قال العيني: «اعلم أن الشخص يؤجر على إماطة الأذى وكل ما يؤذي الناس في الطريق وفيه دلالة على أن طرح الشوك في الطريق والحجارة والكناسة والمياه المفسدة للطرق وكل ما يؤذي الناس يخشى العقوبة عليه في الدنيا والآخرة ولا شك أن نزع الأذى عن الطريق من أعمال البر وأن أعمال البر تكفر السيئات وتوجب الغفران ولا ينبغي للعاقل أن يحقر شيئا من أعمال البر».
وأن لا تتعرض لأحد بما يكره، ولا تذكر أحدًا من الناس إلا بخير، ولا تهزأ بالمارة، ولا تسخر براكب ولا ماشٍ، ولا تشير بيديك ولا عينيك إلى رجل أو امرأة بسوء، ولا تحتقر ضعيفًا، لا تضحك من شيخ أحدب ولا عجوز شوهاء، ولا تفعل ما يفعله السفهاء والأراذل من قول فاحش، كنقد لاذع وتهكم مزرٍ.
ومن الأذى المخدرات والمسكرات، واختلاط الرجال بالنساء اختلاطًا أقل ما يقال عنه أنه يشبه اختلاط الحيوانات في الغابات، ينزو ذكرانها على إناثها والناس ينظرون، فهذا من أعظم الأذى الذي نهى عنه النبي، وأمر بكفه، وجعله حقًّا من حقوق الطريق.
أخرج الطبراني رحمه الله من حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ آذَى المُسْلِمِينَ في طُرقِهِمْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَتُهُمْ».
وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: «اتقوا اللعَّانين» قالوا: وما اللعانان يا رسول الله؟ قال: «الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلِّهم». سمي ذلك باللعانين لأثر هذين الأمرين الجالبين للشتم والطرد الباعثين عليه.
الأول: الذي يتبرز فى طريق الناس.
والثاني: الذي يتبرز في ظلهم: أي الذي اتخذوه مقيلاً.
المحافظة على نظافة الطريق:
وهذا الأدب يندرج تحت كف الأذى، فلا يلقي المرء في الطريق الأوساخ، لا سيما ما يؤذي الناس، كالأشياء التي تسبب الانزلاق، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ».
بل المطلوب من المسلم أن يرفع عن الطريق ما يؤذي المارة من حجر أو شوك أو كل ما يسبب ضررًا بالآخرين، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله؛ وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان».
رد السلام:
وأما رد السلام فهو شعار المسلم، فالله سبحانه وتعالى من أسمائه السلام، وجنته دار السلام، وتحية أهل الجنة السلام، لذلك جعل الله سبحانه وتعالى رد فرضًا، فقال تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾.
وجعله النبي صلى الله عليه وسلم وسيلة لتحقيق السلام بين المسلمين، فقال صلى الله عليه وسلم: «أَفْشُوا السَّلاَمَ تسلموا»، أي: من التنافر والتقاطع وتدوم بينكم المودة وتجمع القلوب وتزول الضغائن والحروب.
وذلك لأن إفشاء السلام رابطة محبة بين من يتبادلونه ويفشونه فيما بينهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: «أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ».
قال النووي رحمه الله: «السلام أول أسباب التآلف، ومفتاح استجلاب المودة، وفى إفشائه تمكن ألفة المسلمين بعضهم لبعض، وإظهار شعارهم المميز لهم من غيرهم من أهل الملل، مع ما فيه من رياضة النفس، ولزوم التواضع، وإعظام حرمات المسلمين».
ولا فرق بين توجب إفشاء السلام ابتداءً أو ردا، كما قال ابن حجر رحمه الله: «لا مغايرة في المعنى، لأن ابتداء السلام ورده متلازمان، وإفشاء السلام ابتداء يستلزم إفشاءه جوابا».
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات التي قصر فيها الخاصة والعامة من المسلمين إلا من رحم الله، تحت ستار الحرية وحقوق الإنسان.
أمثلة للأمر بالمعروف في الطريق:
عن أن يترك الجالس فيها معروفًا حاضرًا أمامه، كأن يؤذن المؤذن للصلاة فلا يجيبه أحدٌ من الجالسين، فإن عليه أن ينادي فيهم أن يجيبوا داعي الله.
أو أن يمر أمامه جائع عارٍ فعليه أن يكسوه ويطعمه، وإن كان غير قادر ماديًّا أمر الناس الجالسين بذلك.
مثال النهي عن المنكر في الطريق:
أن يجلس مع الناس ثم يأتي شربة خمرٍ أو حشيش، أو يرى إنسانًا يُسلَب ماله.
أو يرى شخصا يُضرَب ظلما، فعليه أن ينصره، ويقف في وجه الظالم في حدود طاقته ووسعه.
ارتباط هذا الحق بالاستطاعة:
لأن الله تعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ».
قال القاضي عياض رحمه الله: «هذا الحديث أصل فى صفة التغيير فحق المغير أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به قولا كان أو فعلا».
ولكن ينبغي الإشارة هنا إلى أمور:
أولاً: التدرج في الإنكار: فلا يتحول المرء إلى مرتبة حتى يعجز عن التي قبلها، فلا ينكر بقلبه من يستطع الإنكار بلسانه، وهكذا.
الثاني: أن من كانت له ولاية فإنكاره يكون بأعلى مراتب الإنكار: فرب الأسرة هو السيد المطاع في البيت وتغييره يكون بيده فهو قادر على إزالة المنكر بيده ولا يعذر بترك ذلك.
الثالث: العلم بالمنكر أنه منكر قبل الإنكار: وهل هو من الأمور التي يسوغ فيها الخلاف، وهذا باب غلط فيه فئام من الناس، فليتنبه له.
الرابع: يجب أن يستشعر المُنكِرُ قاعدة المفاسد والمصالح: وأن لا يبادر إلى الإنكار إلا إذا علم أن مصلحته راجحة على مفسدته، ومتى علم رجحان المفسدة وجب عليه الكف حتى لا يفتح باب شر وإفساد.
الخامس: إذا عجز المُنكرُ عن المرتبة الأولى والثانية: فلا يغفل عن قلبه ويمر عليه المنكر دون إنكار بالقلب وظهور آثار ذلك على صفحات وجهه.
هداية السائل عن الطريق:
ومن حقوق الطريق إرشاد السائل عن الطريق، وهدايته إليه، سواءً كان ضالاً أو أعمى. وجاء هذا الحق مصرحًا به في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة الذين سألوا النبي عن حق الطريق قال: «وَإِرْشَادُ السَّبِيلِ». أي: إذا احتاج أحد إلى معرفة الطريق فإنه يرشده، ويبصره بالطريق الذي يحتاج إلى سلوكه وإلى معرفته.
فإذا كانوا جالسين وجاء أحد يريد أن يسلك طريقًا يوصله إلى بغيته، والطرق متعددة، ولا يدري الطريق الذي يوصله إلى بغيته، فإنه إذا سئل الجالس فعليه أن يرشده إلى الطريق، ويبين له السبيل، وهذا من حق الطريق.
وفي حديث آخر لأبي هريرة رضي الله عنه ما يبين أن هداية السبيل من الصدقات، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَدَلُّ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ».
التواضع في المشي:
بأن يمشي الإنسان على الأرض هونًا، أي مشيًا لينًا رفيقًا، وذلك لقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾. وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً﴾.
إعانة الرجل في حمله:
ومن آداب الطريق المستحب فعلها أن تعين رجلاً على ركوب دابته إذا كان ذلك يشق عليه، أو تعينه في حمل متاعه، ويمكن فعل ذلك الآن، فإن بعض كبار السن قد لا يتمكن من الركوب في العربات المتحركة بسهولة، وخصوصًا إذا كانت كبيرة.
وفعل ذلك من الصدقة التي يؤجر المسلم عليها. فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «...وَتُعِينُ الرَّجُلَ على دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَو تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ... الحديث».
تجنب الأخطار:
وذلك بأخذ الحذر من كل ما قد يسبب ضررًا من حيوان، أو إنسان، أو مركبة، وذلك أخذًا من عموم قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾.
وعلى المسلم - أيضا - أن يرد عن الآخرين تلك الأخطار بتنبيههم إليها، أو كفها عنهم إن استطاع.
وليعلم كل مسلم أن هذه السيارة التي يركبها من نعم الله سبحانه وتعالى التي يجب شكرها، ومن الشكر ألا تؤذي بها الناس، وألا تفسد بها في الأرض. وإذا كان الإسلام حذر المسلم من أن يمشي بين الناس وهو يحمل سلاحًا من أي نوع كان بطريقة مخيفة.
لأن له تأثيرًا على نفوس الناس بالإزعاج والإخافة. فكيف بمن يلحق الأذى بالناس، أو كيف بمن يزهق أرواحهم بسيارته؟
عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ فِى مَسْجِدِنَا، أَوْ سُوقِنَا، وَمَعَهُ نَبْلٌ، فَلْيُمْسِكْ عَلَى نِصَالِهَا، أَوْ فَلْيَقْبِضْ بِكَفِّهِ، أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا شَىْءٌ». أي: ضع يدك على نصالها جمع نصل وهو ما يجرح منها والغرض حتى لا يخدش بها أحدا دون قصد.
الرجال أحق بوسط الطريق:
ومن حرص الإسلام على تميز النساء على الرجال، وقطع كل طريق يؤدي إلى الفتنة بهن، أن جعل حافة الطريق للنساء وأوسطه للرجال، حتى لا يختلط الرجال بالنساء وتعظم الفتنة، كما هو الحال الآن إلا من رحم الله.
فعن أبي أسيد الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول للنساء وهو خارج من المسجد ذات يوم بعد أن شاهد اختلاط الرجال مع النساء في الطريق: «اسْتَأْخِرْنَ فإنه ليس لَكُنَّ أن تَحْقُقْنَ الطريقَ، عَلَيْكُنَّ بِحَافَاتِ الطريق».
وسير النساء بمحاذاة جوانب الطريق أستر لهن، وأقرب للحياء، حتى لا ينافسن الرجال في طريقهم ويقتحمنه معرضات أنفسهن وغيرهن للفتنة؛ وأول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء، وهلاكها كان بسبب ذلك.
وهكذا قد دعا الإسلام إلى حفظ الحقوق العامة والخاصة، ومنها آداب الطريق، والتي ذكرنا بعضها؛ وقد جمع محدث زمانه، وحافظ عصره، الإمام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني رحمه الله، بعض هذه الحقوق والآداب بقوله:
جمعت آداب من رام الجلوس على الطر
يـق من قـول خير الخلق إنسـانًا
أفش السـلام، وأحسن فـي الكـلام
وشمت عاطسًا، وسلامًا رد إحسـانًا
في الحمل عاون، ومظلومًا أعن وأغث
لهفان، اهـد سبيلاً، واهـد حـيرانًا
بالعرف مر، وأنـه عن نكر، وكف أذى
وغض طرفًا، وأكثر ذكـر مـولانا
حملة السكينة