بندر بن عبد العزيز الضبعان
كنت أتسوق في أحد فروع ''وول مارت''، وإذ بمجموعة من موظفي الفرع ذوي السترات الزرقاء (المزينة بعبارة ''كيف يمكنني أن أساعدك؟'') قد هرعوا فجأة إلى أحد الأركان، وتحلقوا حوله، وبدأوا سلسلة من الإجراءات السريعة.
توجست من الأمر خيفة وتوقعت حدوث مصيبة في المتجر، إلا أن كل هذا الحراك اتضح أنه لم يكن سوى عملية استنفار لمواجهة ''علبة عصير'' سكبها طفل على الأرض، حيث جرى على الفور تطويق المكان، ونصب العلامة الصفراء المحذرة من الانزلاق، وتنظيف الأرض من البلل!
في الدول الغربية عموما، هناك وعي عالٍ تجاه السلامة، وأهمية الالتزام بمعاييرها، ليس لأن السلامة جزء أساسي من الثقافة الغربية فحسب، إنما خوفا من التبعات القانونية التي تطول المؤسسات، بسبب أية مخاطر قد يتعرض لها موظفوها أو عملاؤها أو مقاولوها، بدءا من دفع تعويضات للمتضررين وانتهاء بخسارة المؤسسة سمعتها التجارية أو إيقافها رسميا عن مزاولة العمل.
قارنوا ما حصل مع ما يمكن أن يحصل عندنا عربيا، إذ يمكن أن يحدث ما هو أخطر من مجرد ''انسكاب مشروب'' دون أن تتحرك الجهة المتسببة بالضرر أو التي وقع فيها، والأدهى أن الحادثة ستمر دون مساءلة للجهة المتسببة، وهذا يعود إلى أمرين:
- السبب الأول (سياسي/إداري): انعدام آليات الرقابة والمساءلة في العالم العربي في كل جوانب الحياة، ومن ضمنها الرقابة والمساءلة المتصلتين بتوفير وسائل ومعايير وإجراءات السلامة في العمل والبيت والمدرسة والشارع.
- السبب الثاني (ثقافي): يكمن في أن العربي يعيش دوما على البركة، ويستبعد وقوع الخطر معتقدا أنه يتوكل على الله دون أن يأخذ بالأسباب، مع أن النبي -صلى الله وعليه وسلم- حين سأله الرجل: ''أترك ناقتي وأتوكل أو أعقلها وأتوكل؟''، أجاب عليه الصلاة والسلام: ''بل اعقلها وتوكل''، وهذا دليل يؤكد أهمية الأخذ بالأسباب مع التوكل، وليس الاعتماد على التوكل وحده!
الغربيون بشر مثلنا، ليسوا معصومين أو بمنأى من الحوادث، الفارق بيننا وبينهم أنهم يطبقون أعلى معايير السلامة في حياتهم وأعمالهم قناعة بأهمية السلامة وخوفا من المساءلة، ويستخدمون مفاهيم عدة كونت ثقافة السلامة التي تشكلت في البيت والمدرسة والعمل، ولعل أشهرها ''قانون ميرفي'' الذي ينص على أنه ''لو كان هناك احتمال لوقوع خطأ ما فسوف يقع الخطأ'' Anything that can go wrong will go wrong.
أما نحن، فإننا ''مبرمجون'' على استبعاد وقوع الحوادث، وبالتالي لا نستعد للخطر، ما يؤدي إلى وقوع حوادث كان من الممكن تفاديهاavoidable accidents، وهنا يتم الخلط ثقافيا بين هذا النوع من الحوادث وبين مفهومنا الخاطئ للقضاء والقدر. ماذا استفدنا من دروس الحوادث السابقة التي فجعت السعوديين؟ حادثة انقلاب قطار الرياض (يونيو 2012)؟ حادثة حريق مدرسة ''براعم الوطن'' في جدة (نوفمبر 2011)؟ حوادث المعلمات على الطرقات كل يوم؟ حوادث الغرق في الأودية والسيول؟ حوادث المتنزهات والملاهي؟ حوادث وقعت دون أن نأخذ منها العبر، والمسلسل ''التراجيدي'' مستمر بما يدمي القلب، لأنه كان بإمكاننا إنقاذ الأرواح الغالية والممتلكات لو التزمنا حقا بمعايير السلامة.
على المنوال نفسه، ابتلينا بالتزامن بحادثتين مفجعتين في بقيق والرياض، وقعتا نتيجة عدم الالتزام بمعايير السلامة. ففي حادثة بقيق (هجرة عين دار)، أطلق مجموعة من الضيوف –من ضمنهم مراهقون- النار ابتهاجا في العرس الذي كانوا يشاركون فيه، ما تسبب في سقوط كيبل كهربائي على الباب الحديدي الخاص بمقر احتفال النساء (حوش مسور وليس صالة مناسبات!)، ما أودى بحياة 24 شخصا وإصابة 39 آخرين في ظل تأخر الهلال الأحمر لأكثر من ساعة ونصف، وفشل الشركة السعودية للكهرباء في فصل التيار الذي لم ينقطع رغم سقوط الكيبل، وإذا حللنا الحادثة –من منظور السلامة- لوجدنا عددا من المخالفات الواضحة:
- ظاهرة ''إطلاق النار'' في الأعراس، وهي ظاهرة ''متخلفة'' ما زالت سارية في بعض الاحتفالات رغم حظرها من وزارة الداخلية.
- حمل واستخدام الأسلحة النارية في ''مكان عام''.
- حمل واستخدام ''المراهقين'' الأسلحة النارية.
- تجمع النساء في مكان غير مهيأ للتجمع والاحتفال (فيما يبدو من الصور أنه ''حوش أغنام'').
- عدم توافر مخارج طوارئ في مقر العرس (الحوش).
- تأخر الهلال الأحمر في إسعاف الضحايا.
- تأخر شركة الكهرباء في فصل التيار الكهربائي
أما في الرياض، فقد أدى ارتطام ناقلة غاز تسير مسرعة بين السيارات بأحد جسور شرق الرياض إلى انقلابها نتيجة مصادفتها حادثا مروريا على خط سيرها، ما أدى إلى تسرب الغاز إلى خارج الناقلة وحدوث الانفجار الذي أودى بحياة 22 شخصا وإصابة 133 آخرين، في ظل تجمع وتحلق المتجمهرين، ولو حللنا الحادثة –من منظور السلامة- لوجدنا عددا من المخالفات الصريحة:
- عدم الإسراع في إقفال الطريق نتيجة الحادث المروري الذي أربك سير الناقلة.
- ترك ناقلات الغاز (وغيرها من المواد القابلة للاشتعال) تسير في الطرق نفسها التي تسلكها السيارات العادية وخلال الفترة النهارية.
- ترك ناقلات الغاز (وغيرها من المواد القابلة للاشتعال) تسير دون أن ترافقها دورية من الدفاع المدني.
- عدم اللجوء إلى نقل الغاز عبر خطوط أنابيب وشبكات أرضية.
- سرعة سائق الناقلة أثناء القيادة ومحاولته الهرب بعد الحادث، ما يشير إما إلى عدم نظاميته، أو عدم تأهيله لقيادة ناقلة بهذا الحجم والنوع، أو احتمال تعاطيه الكحول أو المخدرات (للأسف قلة هي الشركات التي تطبق برامج لفحص موظفيها وعمالها، خاصة المرتبطين بوظائف ذات مخاطر عالية).
- ظاهرة التجمع والتجمهر الشائعة في مواقع الحوادث التي تعوق عمليات الإنقاذ والإسعاف.
السلامة خير من الندامة.
الله يحفظ الجميع من كل شر..
أترككم مع بعض المشاهد التي قد يستهين بها البعض ويعتبرها ''عادية'' رغم أنني أعتبرها استفزازية وتتحدى السلامة: التدخين داخل أو بالقرب من محطة الوقود، النوم وترك الجوال مشحونا، إشعال الحطب أو الفحم في الخيام والأماكن المقفلة، التراسل أو التحدث بالجوال أثناء قيادة السيارة، وضع الطفل في حضن أبيه وهو يقود السيارة، عدم وضع العلامة الصفراء المحذرة من الانزلاق أمام الأرضية المبللة، وغيرها..
ارفعوا مستوى وعيكم تجاه السلامة في البيت والعمل والشارع، ركبوا أجهزة إنذار للخطر داخل ''عقولكم''، وارصدوا المخالفات وعالجوها أو اطلبوا من المعنيين معالجتها، فلو كنا –أفرادا ومؤسسات- نهتم بالسلامة في حياتنا وأعمالنا اليومية قدر اهتمامنا بها خلال ''موسم الحج'' لأصبحنا أساتذة العالم في مجال السلامة!