جسور الملك عبد الله الحضارية

بدور بنت عبد الرحمن أبوعمه
لاحظ المؤرخون وكثير من الفلاسفة المعاصرين أنه مر عبر التاريخ العديد من الجسور التي تربط بين أجزاء من العالم، وعدد من الحواجز التي تبعد مجتمعات العالم عن بعض. بعض هذه الحواجز عنصرية كالجدار الذي يفصل الأراضي العربية المحتلة عن فلسطين، الذي أنشأته إسرائيل، وجدار برلين الذي قسم مدينة برلين ليفصل اقتصاد السوق عن الاقتصاد الاشتراكي، ومنها أيضا أطول الأسوار في العالم سور الصين العظيم الذي كان حاجزاً طبيعيا ونفسيا لم يتحرر منه الناس حتى وقتنا الحالي إلى أن أصبح معلما أثرياً، والساتر الحديدي الذي كونه الاتحاد السوفياتي ليعزل الدول الشيوعية في وسط آسيا ودول أوروبا الشرقية عن بقية العالم، قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، ومنها الحاجز الأمني بين الولايات المتحدة والمكسيك الذي يفصل بين ثقافتين مختلفتين واقتصادين متباينين، والذي يقدر طوله بما يقارب ثلاثة آلاف كيلو متر.

صنف بعض الكتاب والمحللين السياسيين الغربيين أحداث التاسع من سبتمبر لعام 2001 في الهجوم على برجي مركز التجارة العالمي من أكبر الحواجز الافتراضية الثقافية في القرن الحالي بين المسلمين، أو العرب، والعالم الغربي. ومن المعروف أن من تنائج هذا الحدث تأثر الحراك من المملكة العربية السعودية وإليها، لكن اتصالات الملك عبد الله الدولية وحكمته حدت من الآثار السلبية لهذا الحاجز.

تأثرت بعض الجاليات الإسلامية في الغرب من هذه الأحداث، ما دفع الناشطة الاجتماعية ومؤسسة اتحاد دراسات الإعلام والاتصال والحضارة، ليسا بيركينز، لأن تقوم بإعداد مواد تعليمية للطلبة الأوروبيين لمواجهة الصورة النمطية غير الجيدة للمسلمين التي صنعها الإعلام الأوروبي بعد أحداث التاسع من سبتمبر، كان ذلك بتمويل من الاتحاد الأوروبي، طبقت الخبيرة هذه المواد التعليمية والتوعوية على الجالية الصومالية في مدينة شفيلد البريطانية وكان ذلك من أواخر أعمالها قبل وفاتها عام 2004.

في المقابل ذكر الدكتور براين دنمان الأستاذ في جامعتي هيروشيما في اليابان وجامعة نيو إنجلاد في أستراليا عدداً من الجسور الرابطة بين الحضارات في العالم مثل خطة مارشال الأمريكية لربط دول شرق أوروبا بغربها بعد الحرب العالمية الثانية، ومصادقة مجلس الأمن على نظام الأمم المتحدة الذي جعل منها منبراً عالمياً للحوار يتيح لكل الدول الأعضاء التعبيرعن رأيهم وتطلعاتهم ومشاركة الآخرين آلامهم وآمالهم، وهي أحد منابر الحوار العالمي. كما أن من الجسور الحديثة اتفاقية شنقن التي أزالت الحدود السياسية بين دول أوروبية، ودعمت هذه الاتفاقية الحراك المجتمعي بين دول أوروبا كاستراتيجية للوحدة السياسية. ومن الجسور الدولية التي يمكن الإشارة إليها الاتحادات الرياضية العالمية المختلفة، ومنظمات تابعة للأمم المتحدة مثل منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأمم المتحدة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ومنظمة الأغذية والزراعة. يتضح مما سبق أن بعض هذه الجسور مادية وقائمة على أرض الوقع وبعضها نفسية وثقافية وهي نتاج مبادرات ومشاريع إقليمية أو دولية لكنها في النهاية تلعب الدور نفسه في التوصيل أو العزل.

تجدر الإشارة إلى أن من أهم جسور بداية هذا القرن الحادي والعشرين برنامج الملك عبد الله للابتعاث الخارجي الذي كان وما زال امتدادا طبيعيا لاهتمام الدولة بالتعليم عموما والتعليم العالي على وجه الخصوص.

أسهم برنامج الابتعاث الخارجي في دعم توجهات المملكة وما زال يحقق أهدافه الرئيسة، في مقدمتها خدمة خطط التنمية الوطنية ورفع جودة الموارد البشرية، لكنه يقوم، إضافة إلى ذلك في أن تكون المملكة دولة عالمية تتفاعل مع الحضارات وتؤثر وتتأثر بالثقافات العالمية. وعلى الرغم من أن التعليم هو للمواطنة وللتأكيد على الهوية كما ذكر محمد الفاعور ومروان المعشّر الباحثان في مركز الكارنيجي لدراسات الشرق الأوسط في الولايات المتحده الأمريكية في تقريرهما عام 2011 عن التعليم في العالم عن العربي.

يواصل برنامج الملك عبد الله للابتعاث الخارجي مسيرته بالمرحلة الثانية بعد الخمس سنوات الأولى، التي ستكون لخمس سنوات أخرى وربما تجاوز عدد الطلبة في البرنامج 140 ألفا بنهاية العالم الحالي. يقوم هؤلاء الطلاب والطالبات بتمثيل حضارتهم وعاداتهم وتقاليدهم الاجتماعية وتسامح دينهم وعدالته عن طريق اختلاطهم بزملائهم الشباب المنتمين إلى عدد كبير من الجنسيات والأعراق والأديان. تأقلُم عشرات آلاف الطلاب واندماجهم في المجتمعات الأكاديمية المختلفة وتأثيرهم فمن يتعامل معهم في الأوساط الدراسية والاجتماعية، تشكل دعائم هذا الجسر الحضاري الكبير. ومن الطبيعي أن عودة الخريجين المؤهلين بالشهادات العلمية والخبرات الأكاديمية تختلط بالممارسات الحضارية والتقاليد الراقية التي يعود بها الطلاب للمجتمع السعودي. وددت في أن أكون منفردة الرأي في كون برنامج الملك عبد الله للابتعاث الخارجي هو أحد جسور التواصل المهمة بين الحضارات، لكن الأمانة تقتضي أن أشير في ذلك أن هذا رأي بعض التربويين في العالم عن هذا البرنامج العملاق.

تجدر الإشارة إلى جسور مهمة أخرى تتمثل في مبادرات الملك عبد الله مثل مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني الذي أنشئ عام 1424هـ وعقد عدة لقاءات ناقشت مشاكل الصحة والخدمات الصحية والتعليم بكل مراحله، إضافة إلى أوضاع اقتصادية أخرى تهم المجتمع، ومن الواضح من خطط المركز أن سيكون له دور رئيس في رصد المشاكل الاجتماعية ودراستها من كل فئات المجتمع وتحليلها وتقديم التوصيات لولي الأمر خادم الحرمين الشرفين لتبني الحلول المناسبة منها. ومن الجسور مركز الملك عبد الله العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات في النمسا عام 1429هـ، الذي يهدف إلى تعزيز الحوار بين أتباع الأديان ومرجعياتها وقادتها في العالم، من المؤمل أن يكون لهذا المركز دور في تخفيف التطرف الديني ودعم التعايش السلمي بين البشر، ما يؤدي إلى دعم السلام العالمي. ومن الجسور مبادرة خادم الحرمين الشريفين التي أعلن عنها في اجتماع القمة لأعضاء المؤتمر الإسلامي عام 1433هـ، تأسيس مركز الحوار بين المذاهب الإسلامية، الذي يهدف إلى تقارب الأمة الإسلامية ومواجهة الاختلافات والحد من التشنجات الطائفية والعرقية والتأكيد على الأخوة الإسلامية والتقليل من أثر الخلافات الفقهية والسياسية. هذه الجسور تربط أجزاء الوطن والأمة وتضمن التواصل والتفاهم واحترام الآخرين والحفاظ على السلام والأمن الإقليمي والدولي.