علي الجحلي
أوجد الارتفاع الكبير في أسعار النفط خلال السنوات الخمس الماضية طفرة جديدة دفعت حكومات المنطقة إلى تنفيذ مشاريع كبرى. بدأ الإنفاق يتصاعد بشكل غير مسبوق على استكمال البنى التحتية وإيصال الخدمات ودعم دخول مواطني هذه الدول من خلال زيادات كبيرة في المرتبات وتوظيف أعداد متزايدة من المواطنين في قطاعات الدولة، بشكل قد لا يكون مبنياً على أسس اقتصادية، وإنما بدافع الرغبة في أن يشارك الجميع فيقطف ثمار هذه الطفرة الجديدة الكبرى.
أكد تقرير لصندوق النقد الدولي أن زيادة الإنفاق تجاوزت 20 في المائة في عام 2011، وأنها مرشحة للارتفاع إن لم يتم تنظيم عمليات الصرف بربطها بالقيمة المضافة للاقتصاد، بدل أن تكون عمليات صرف على أنشطة ذات مردود محدود أو تساهم في خروج العملة الصعبة من اقتصادات المنطقة. المعلوم أن إيرادات دول الخليج حققت فوائض مالية بنسبة تصل إلى 13 في المائة خلال عام 2011 وهي مرشحة للبقاء في هذه الحدود، لكنها قد تتحول إلى عجز بحلول عام 2017 إذا لم يتم تحويل الفوائض إلى استثمارات يمكن من خلالها دعم الاقتصاد وضمان استمرار النمو.
ماذا يعني هذا بالنسبة للمملكة وهي أكبر دول المجلس؟ يجب أن تؤخذ هذه المؤشرات بجدية لأن هذه الطفرة ليست مرشحة للتكرار، خصوصاً مع التقارير التي تتحدث عن انخفاض كميات النفط المصدرة خلال الأعوام المقبلة، والتي يمكن أن تنخفض إلى 7.5 مليون برميل إذا استمر الاستهلاك الداخلي في نمطه المتصاعد، وهو ما أكدته دراسات مستقلة عن هذا التقرير.
سبق أن عشنا طفرة مماثلة لهذه في السبعينيات الميلادية، حققت المملكة خلالها قفزات هائلة في الخدمات والبنية التحتية خصوصاً في مجالات الطاقة والصحة والتعليم. تعاملت الدولة مع تلك الطفرة بمنطق وكفاءة حققت للمواطن الوفرة وأوصلت الخدمات لأماكن لم يكن متوقعاً أن تصل إليها في فترة وجيزة. استمرت تلك الطفرة ما يقارب خمس سنوات. نحتاج اليوم للإعداد لما بعد هذه الطفرة التي بدأت قبل أكثر من ثلاث سنوات بل أقرب إلى الأربع سنوات، وليس من الفطنة أن نتوقع أن تستمر لفترة أطول من سابقتها.
لابد أن يتوقف الصرف الرأسمالي و التوجه نحو الاستثمار من خلال برنامج فعال يعيد دراسة استثمارات الدولة بناء على المردود الحقيقي على رأس المال المستثمر والنجاحات التي يمكن أن تعوض النقص المتوقع في إيرادات الدولة من نشاط إنتاج وتكرير وتصدير النفط. هذه الاستثمارات ليست بالضرورة داخلية، بل يمكن أن تكون في أي مكان من العالم اعتماداً على الربحية فقط.
يجب أن تسيطر القرارات الاقتصادية على توجه الدولة خلال السنوات القادمة والابتعاد عن عمليات الصرف التي لا تحقق مردودا إيجابيا للاقتصاد. إن الأعمال التي يمكن أن تدعمها الدولة في الداخل لا بد أن تكون ذات مردود يشمل إيجاد الوظائف للمواطنين وتقديم إضافة نوعية للاقتصاد، فليس التوظيف فقط هو الهدف، وإنما التوظيف في مجالات اقتصادية تدعم مسيرة الدولة للأمام. هذا يضع المجلس الاقتصادي الأعلى أمام مسؤولية كبرى في تسيير قرارات الدولة، وهو ما يستدعي أن يكون للمجلس هيئة استشارية دولية من ذوي الخبرة والعلم والمهارة لصياغة ومتابعة خطة للنمو الاقتصادي بالتوازي مع نتائج الدراسة التي تتحدث عن انخفاض عوائد النفط بشكل متصاعد.
لابد أن نضع من القوانين والأنظمة ووسائل الرقابة التي تسيطر على سوق النفط وعلى الاستهلاك المحلي للمنتجات النفطية، حيث نضمن أن تحتسب جميع الكميات المنتجة ونعلم أين تذهب. هناك معاناة أساسية من عمليات التهريب التي تتم في المنافذ الحدودية. إيقاف التهريب هو مهمة أساسية للجهات الرقابية من الجمارك وحرس الحدود والأمن، مع وضع عقوبات رادعة تضمن أن يكون ما تقدمه الدولة لمواطنيها هو خاص بهؤلاء المواطنين فقط.
عمليات الدعم التي تحصل عليها شركات محددة يجب أن تضبط من خلال ما تقرره الشركة الأم وهي أرامكو السعودية. فهناك شركات تحصل على وقود الديزل المدعوم وهي في واقع الأمر يمكن أن تستخدم أنواعا أخرى. هذا إضافة إلى ضرورة الحد من مصروفات شركات أخرى مثل كهرباء السعودية وشركات الأسمنت من خلال تحسين فعالية مولداتها لتقليل استهلاك الوقود المدعوم.
هذه الإجراءات التي يمكن أن تطبق بالتوازي مع تقييم المردود الاستثماري للدولة ومطالبة القطاع الخاص بتوظيف المواطنين في وظائف ذات قيمة مضافة. كما يجب أن تكون الوظائف القيادية في القطاع الخاص مفتوحة بشكل كامل للمواطنين، ذلك أن ضمان دخول المواطن للعمل في القطاع الخاص مرهون بتوجهات قيادة الشركات وعلاقتها مع الموظفين، وهو ما يحاربه الكثير ممن يديرون هذه الشركات.
يجب أن تستثمر الدولة الأموال في دعم توظيف المواطنين في هذه القطاعات، ويمكن أن تكون الخبرة المكتسبة من قيام الدولة بالمساهمة في دفع رواتب المعلمين العاملين في المدارس الخاصة. هذه الطريقة يجب أن تتماشى مع التقييم المستمر للأرباح التي تحققها الشركات ومؤسسات القطاع الخاص إلى أن تتمكن هذه المنظومات من الوقوف على قدميها وتستغني عن الدعم الحكومي.
خلاصة القول هو أن هذه الطفرة في طريقها إلى النهاية، وما لم نتمكن من استغلالها بطريقة تضمن إيجاد مصادر دخل بديلة قادرة على تعويض النقص المتوقع في إيرادات النفط، والمحافظة على الوفرة المالية للمواطنين، وتوظيفهم في مختلف قطاعات الأعمال، فإننا سنواجه أياماً عصيبة بالتأكيد.