د. عبد الله المدني
فيما كانت إحدى القبائل الباكستانية المتشددة تعاقب إحدى نسائها بالقتل رجما بسبب غنائها وتصفيقها في حفل زواج غير مختلط، كان مئات الأئمة الهنود المسلمين يجتمعون في دلهي تحت مظلة ''جماعة علماء الهند''، وهي واحدة من المنظمات الإسلامية الهندية العريقة، للدفع باتجاه اتخاذ خطوات فاعلة لمنح النساء المسلمات الهنديات المزيد من حقوقهن المسلوبة في التعليم والميراث، خصوصا في حالة وراثة الأرض الزراعية، والتصدي للكثير من التقاليد الاجتماعية السائدة المهينة لكرامة المرأة مثل إساءة معاملة الزوج لها، وتطليقها عشوائيا، ومنعها من اللحاق بركب التعليم في المدارس والجامعات الحديثة المختلطة، أو منعها من امتهان بعض الوظائف.
هاتان الواقعتان اللتان لم تفصلهما سوى أيام معدودة تصلحان وحدهما للتدليل على البون الشاسع بين نهج مسلمي البلدين التوأمين فيما خص التسامح والحقوق وحرية الاختيار والالتزام بضوابط القانون.
لقد كتبنا من قبل عن ظاهرة التسامح التي يتميز بها المسلمون الهنود بصفة عامة، خلافا لما يسود طباع طائفة كبيرة من المسلمين الباكستانيين، لا سيما أبناء القبائل منهم والقاطنون في الأقاليم الجبلية النائية، وقلنا إن أسبابها تعود إلى عوامل تربوية وثقافية وتاريخية متشابكة. فالبيئة التربوية السائدة في الهند الحديثة هي الابنة الشرعية للدولة الديمقراطية العلمانية المدنية التي أسسها جواهرلال نهرو ورفاقه من أبطال الاستقلال، بل هي امتداد لما رسخه المهاتما غاندي وأتباعه في المجتمع الهندي منذ بدايات القرن العشرين حينما بشـّر بالنهج اللاعنفي في مقاومة المستعمر الأجنبي. ومثل هذا النهج كان بالإمكان أن ينتقل إلى باكستان مع من هجروا مساقط رؤوسهم في الهند البريطانية جريا وراء سراب دولة الأطهار المسلمة (باكستان) بقيادة ''القائد الأعظم محمد علي جناح''، لولا ما اصطبغ به تاريخ الأخيرة من مظاهر القمع والديكتاتورية والتعسف والعنف واللااستقرار على أيدي حكوماتها العسكرية المتتالية بعد رحيل مؤسسها جناح في عام 1948. ذلك أن البيئة المتوترة والمتشظية سياسيا واجتماعيا وجهويا لا تخلق سوى المتوترين الساعين إلى التغيير باستخدام وسائل عنيفة.
من جانب آخر، فإن معظم من هاجر من الهند البريطانية في 1947 إلى الأراضي التي صارت اليوم تـُعرف باسم باكستان كانوا من أبناء شمال الهند وغربها، أي من الذين ورثوا النزعة الثأرية والانتقامية، والأفكار العنيفة غير المتسامحة من آبائهم وجدودهم ممن تعرضت أقاليمهم وأراضيهم وممتلكاتهم لموجات من الغزوات الحربية على أيدي المغول وغيرهم، بمعنى أن دخولهم في الإسلام كان نتاج حروب وفتوحات دموية. بينما لم تشهد الهند الوسطى والسفلى، خصوصا ولاياتها الجنوبية المكتظة بالمسلمين مثل كيرالا (حيث سواحل مليبار)، وأندرا براديش (حيث تقع حيدر آباد) وكارناتاكا (حيث توجد منغلور وبنغلور) تلك النزعة، لأن أبناءها تشربوا مفاهيم الإسلام وآمنوا بها من خلال فتوحات سلمية قادها التجار والبحارة المسلمون القادمون من شبه الجزيرة العربية ممن استخدموا المصاهرة، والموعظة والقدوة الحسنة في نشر عقيدتهم في تلك الديار، وليس العنف المسلح. وحسب علماء الاجتماع السياسي فإن الأقوام والجماعات تتأثر بما مر عليها من أحداث وعواصف، بل تصطبغ أفكارها وسلوكياتها بما حملته تلك الأحداث ونشرته من نزاعات ومشاهد.
ويزعم صديقنا المفكر الإسلامي اللبناني المعروف ''رضوان السيد'' (''الشرق الأوسط'' 11/11/2011) أن باكستان شهدت نهجا إصلاحيا هيمنت عليه فكرة التسامح الديني والابتعاد عن الغلو والتشدد، قاده الفيلسوف ''محمد إقبال'' صاحب تجديد الفكر الديني، لكنها انتكست سريعا بسبب حركة الخلافة من جهة، وانفصال الرابطة الإسلامية بقيادة جناح عن حزب المؤتمر الهندي بقيادة غاندي من جهة أخرى، ثم لاحقا بسبب ظهور الجماعة الإسلامية بقيادة أبو الأعلى المودودي في عام 1941. ويضيف السيد أنه في تلك اللحظة التاريخية الفاصلة بدأ الصراع الحقيقي بين دعاة الإصلاح والتجديد والتسامح ودعاة التطرف والتشدد والانغلاق في باكستان، الأمر الذي يشبه كثيرا المشهدين العربيين في المشرق والمغرب حيث تصارع التقليديون والإصلاحيون على مسائل كثيرة مثل: الاجتهاد، وسفور المرأة، والموقف من الآخر المختلف عقيديا، والتوسل إلى الصالحين، وزيارة القبور، وغيرها إلى أن ظهرت مدرسة الإمام محمد عبده التي هدفت إلى الجمع بين طهورية السلفية والنهضوية الحديثة، قبل أن يتكسر هذا الاتجاه تحت وطأة الحرب العالمية الأولى، وإلغاء دولة الخلافة، والتدخل الاستعماري، وهي عوامل دفعت مجتمعة إلى السطح وأبرزت جماعات وحركات دينية متشددة مثل حركة المودودي في باكستان وتنظيم الإخوان المسلمين في مصر.
وفي سياق الحديث عن جماعة علماء الهند لا بد من التنويه إلى أن هذه الجماعة التي يعود تاريخ تأسيسها إلى عام 1919 على يد معظم ساجد قاضي حسين دهلوي، تفتخر بجذورها الهندية وصلتها بالزعيم الوطني المهاتما غاندي وفلسفته اللاعنفية، ناهيك عن افتخارها بموقفها الرافض في 1947 لتقسيم شبه القارة الهندية على أساس ديني. وتدير الجماعة اليوم عددا كبيرا من المدارس الإسلامية في البلاد، وتعقد مؤتمرا عاما كل ثلاث سنوات لبحث شؤون مسلمي الهند وشجونهم والدعوة إلى إصلاح أحوالهم سلميا من خلال الضغط على الحكومة المركزية في نيودلهي. إلى ذلك، وطبقا لما ورد على لسان أحد قادتها (محمود مدني) فإن الجماعة تعمل على تشكيل حراك من أجل توعية الإنسان الهندي المسلم بحقوقه الدستورية، وتوعيته بحقوق المرأة وفقما كفله لها الإسلام، وتوعيته بضرورة نبذ الكثير من التقاليد الاجتماعية البالية المتوارثة من تلك التي تحول دون قيامه أو قيام شريكته بدور أكبر في تقدم المجتمعات التي يعيش فيها، ولا سيما تلك التقاليد الشكلية الخاصة بالمظهر الخارجي.
غير أن البعض يأخذ على دفاع الجماعة عن حقوق المرأة الهندية المسلمة أن الأخيرة مغيبة تماما عن قراراتها، فهي مثلا ليس لها أدنى تمثيل في كوادر الجماعة وهيئاتها، وكل ما يتعلق بشأنها يتخذه الذكور بالنيابة عنها. وفي هذا السياق تقول إحدى الناشطات الهنديات المسلمات: ''لو كانت الجماعة جادة فعلا في ملامسة مشكلاتنا لسعت لأن يكون لنا تمثيل في هيئاتها، ولما استمرت في الأخذ بمبدأ التسلط الذكوري''. لكن على الرغم من هذه النقيصة، هناك من الأصوات النسائية التي ارتفعت لتدعم الجماعة قائلة إن تفاعلها مع مشكلات الإناث المسلمات – إنْ كان سيجلب خيرا لهن - فهو أمر محمود، وجدير بالدعم.
ونختتم بالتذكير بأن البيئة التعليمية والتربوية، التي أتينا على ذكرها في بداية المقال كعامل من عوامل تميز المجتمع الإسلامي في الهند بالتسامح بصفة عامة، ما كانت لتخرج أجيالا من المسلمين وغيرهم مشبعين بقيم التسامح ونبذ العنف وتغليب المصلحة العامة على المصالح الجهوية والطائفية الضيقة لولا وجود الكوادر التعليمية المؤهلة والواعية بقيم المواطنة والدفاع عن ديمقراطية البلاد ومؤسساتها الدستورية العلمانية. المناهج التربوية وحدها لن تفعل شيئا مؤثرا إنْ لم تكن مسنودة بمعلمين أكفاء لم تنخر الطائفية والعنصرية البغيضتان نفوسهم.