كلمة الاقتصادية
.. ويتكرر مشهد تكريم الإنسان تباعا في ديوان خادم الحرمين الشريفين يحفظه الله، والحاضر على الدوام في هذا التكريم هو الفعل النابه الذي يتخلى عن أوضار الدنيا وزخرفها ليصعد ويسمو في معارج الضمير الإنساني الحي، ليعيد للحياة توازنها وألقها وجمالها بعد أن دفعها البعض عنوة للسباق في ميدان الأطماع الزائلة.
وفي كل مرة يقف خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، أمام تلك الأفعال النابهة، يُعلق على صدور أصحابها وسام الملك عبد العزيز .. مثلما حدث قبل أيام قليلة مع المواطن حمود بن طوعان الذي فجع بمقتل نجله في مشاجرة عابرة، لكنه تحامل على آلامه وأحزانه، ليدع القياد لإنسانيته التي رفضت الدخول في مزادات الدم، والانصياع لداعي العفو لوجه الله .. ليعتق رقبة غريمه في فورة الدم، قاطعا الطريق على أي مزايدة قد تستدعي (الجاهات) أو الأموال، وهي البادرة التي تلقفها الملك الإنسان، وملك الإنسانية الذي لم تلهه مسئولياته القيادية الكبيرة وازدحام برنامجه اليومي.. عن التوقف أمام كل ما يرفع قيمة الإنسان وكرامته، ليجعله على رأس أولوياته احتفاء وتكريما.
هذه الصورة التي تكررت أكثر من مرة في غضون أقل من شهرين، لا تكشف فقط عن تلك المواقف النبيلة المدججة بالشهامة والإيمان، والأخلاق الفاضلة التي كرسها الإسلام، على الرغم من كل ما يُقال عن زمن المادة والمصالح والحسابات، وإنما تكشف أيضا عن هذا النمط الفريد من القيادة بالأخلاق التي يترجمها بكل عفوية الملك عبد الله بن عبد العزيز .. الذي يُصر على رعاية تلك المواقف الإنسانية بنفسه، ويتعهدها بأرقى أنواع التكريم إمعانا في ترقيتها إلى موقع القدوة الحسنة في أوساط مواطنيه، في مسعى بالغ الدلالة على إيمانه العميق بأن الحفاوة بمثل هذه المواقف هي السبيل الوحيد لاستدعائها واستردادها في مواجهة مزالق التردّي، وانكسار ميزان القيم المثلى لحساب "تسليع" الإنسان، وتحويل دمه إلى بضاعة معروضة للبيع والشراء، هذا المفهوم الذي تبناه - يحفظه الله - لا يبعث على الأمل فقط في إعادة بعض فئات هذا المجتمع إلى جذورها حيث الشهامة والنبل وكريم الأخلاق، وقبل هذا وذاك فضائل الإسلام التي يأخذ فيها العفو أعلى المراتب وأرقاها، وإنما يقود أيضا هذا المجتمع برمته إلى موقعه الصحيح ليركن إلى موروثه القيمي المليء بأجمل الأمثلة عن فروسية الأخلاق، وشيم العفو والصفح، وكل معاني الكرامة التي لا تخطئها ذاكرة الشعر وأدب الصحراء على مرّ العصور.
لقد دأب خادم الحرمين الشريفين - يحفظه الله - ومنذ أن تولى مقاليد الأمر في هذا الوطن على أن يطبع بلاده ببصمته الخاصة، بصمة الإنسانية، ومشروع فصل التوائم العالمي الذي رعاه بكل عناية .. والإسكان الخيري، إلى جانب تلك المبادرات الإنسانية الضخمة المتمثلة في المساعدات التي امتدت إلى الجهات الأربع .. كل هذا ما هو إلا قمة جبل الجليد في مشروع عبد الله بن عبد العزيز الإنساني والأخلاقي، الذي يرتكز على إيقاظ ضمير الإنسان وروحه ووجدانه الحيّ، لتكون الوعاء لكل القيم والشيم الأصيلة التي كرّم الله بها الإنسان.
وإذا ما كان هنالك من يقول: إنه لا أخلاق في السياسة .. فإن عبد الله بن عبد العزيز الفارس العربي بقيمه وأخلاقه ومبادئه، جاء لينسف هذه النظرية من جذورها بمشروعه السياسة بالأخلاق، وكلنا نتذكر كيف خطف أنظار العالم في قمة الكويت حينما غلّب الجانب الأخلاقي على كل صغائر الخلافات وتسامى فوق الجميع، ليُجبرهم بقوة المبادئ على الإذعان لصوت العدل والحق، هذا هو مشروع الملك الإنسان وهو يترجم بمواقفه وأقواله وأفعاله (وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت .. فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا)، ويُقدّم في السياسة درسا في أخلاق الكلمة الصادقة التي تستقر كالوشم في ذاكرة الشعوب، وفي القيادة موقفا لاستنهاض المجتمع نحو قيم الأصالة وعزتها.