د0ناصر الحجيلان
يواجه المرء في حياته مواقف كثيرة ترد إليه في وقت واحد أو تأتي كلها في زمن قصير، وعليه أن يتعامل مع تلك المواقف جميعها بطريقة مناسبة. هناك أشخاص بارعون في التعامل مع تلك المواقف وكأنهم متفرغون لكل واحد منها، وهناك من يرتبك وتتداخل في ذهنه المهام وتشتبك ولايستطيع أن يتعامل مع أي منها. والسؤال الذي نحاول مناقشته هنا، ما علاقة الإدارة بالشخصية؟
وقبل ذلك، لابد من الإشارة إلى أن إدارة الآخرين وإدارة القضايا تتطلب مهارة تتعلق بقدرة الشخص على إدارة نفسه من خلال قدرته على السيطرة على مشاعره وأفكاره وتوجيهها –وفق إمكانياته الذاتية- نحو هدف أو أهداف محددة. والملاحظ أن الشخص الذي لايستطيع التحكم بمشاعره لن يستطيع السيطرة على مسار أفكاره، ومن ثم، فإن رؤيته للعالم الناتجة عن هذا التفاعل النفسي والعقلي ستكون مشتتة، وأي قرار ينتج عن هذه الرؤية غير المتزنة سيكون في مسار غير مناسب. وهذا النوع من الشخصيات الانفعالية لايستطيع أصحابها أن يقوموا بإدارة أي شيء على الوجه المناسب؛ بل إن الارتباك يكاد يكون ملازمًا لشخصياتهم من خلال الفوضى التي تحيط بالشخص في مكتبه أو منزله أو سيارته. هذا النوع غير قادر على إدارة أسرته؛ فالخلافات هي الأساس في حياته كلها، بل إنه لايحسن اختياراته في العمل وفي التعامل مع الآخرين.
وفي الثقافة الشعبية يوصف هذا الشخص بأنه لايستطيع أن يرعى عددًا محدودًا من الماعز، فيقال في مجال التقليل من قيمة الشخص الفاشل في تدبير الأمور بأنه «ماينسرَّح بثلاث صخال»؛ والقصة الشعبية تحكي أن رجلاً قدم على جماعة من العرب، فأكرموه وكان ذا مظهر حسن، وطلب أن يعمل لديهم وهو رجل متحمس وجاد، فقالوا: لدينا أغنام، هل ترعاها؟ فوافق. ومن الغد أخذها وما إن ابتعد عن البيوت حتى تفرقت عليه ولم يستطع جمعها، وعاد في المساء وقد ضاع نصفها. ففزع القوم وراحوا يبحثون عن أغنامهم حتى جلبوها من أماكن متفرقة. وحينما عادوا أخذوا يناقشونه فيما حصل، فكان مرتبكًا وهو يروي كيف أنه راح يطرد ماعزًا اتجهت نحو الشرق لكي يعيدها فما كان من أخرى إلا أن شردت صوب الغرب، فراح في اقتفاء الثانية وترك الأولى، فإذا بثالثة تهرب شمالا، فراح يتبعها وترك البقية، وهكذا بدأت الأغنام تشرد وتتفرق وهو مجتهد في مطاردة واحدة لايلبث أن يتركها ويلاحق الأخرى، حتى أنهك وتعب ولم يستطع عمل شيء إلا بالعودة إلى البيوت مع غروب الشمس ومعه قطيع منهن يعرف طريقه دون حاجة للراعي. وحينما انتهى من الشرح وهو في قمة الحماس، بدأ بعض الرجال في توبيخه، فقال كبيرهم: «اتركوه، هذا ماينسرّح بثلاث صخال»؛ في إشارة إلى أن كل واحدة سوف تجعله يذهب في اتجاه مختلف فيضيع وتضيع الماشية.
النموذج السابق، يمثل الشخصية المشتتة التي تهتم ببعض التفاصيل على حساب العمل الكلي، فقد أشغل نفسه في مطاردة ماعز ابتعدت قليلاً عن القطيع ثم أدخل نفسه في مطاردة غيرها، فأنهك نفسه ونسي المجموع الكلي، فانتهى به الأمر إلى تضييع عدد كبير من الماشية في سبيل الحفاظ على واحدة منها. لا أحد يشك في نيته السليمة ولا في حماسته القوية، ولكنه يفعل ذلك دون تدبير.
هناك توازن داخلي لدى الشخصية يجعل صاحبها قادرًا على استيعاب المتغيرات من حوله والسيطرة على الزمن الداخلي الذي تتحرك من خلاله ذاته؛ فلايسمح لعواطفه أن تتوتر أو تصبح خارج سيطرته لأن ذلك سوف يجلب له التشويش. نلاحظ هذا حينما يقوم شخص بدعوة عدد من الناس في وليمة أو مناسبة، فهناك من يكون مرتاحًا ويتعامل مع أي ظرف طارىء بهدوء ويشعر الجميع بالتقدير والاحترام، في حين هناك من يُصاب بالارتباك والقلق وينسى القيام ببعض الواجبات في الترحيب أو التكريم ويخرج الناس من عنده وفي نفوسهم بعض الكدر، والسبب أنه لم يكن قادرًا على إدارة ذاته. بعضهم حينما يرتبك يشتم وقد يضرب ويتصرف بشكل هستيري يخرجه عن طور العقل والاتزان، ويجلب له مشكلات ما كان لها أن تحصل لو عالج الأمر برويّة وهدوء.
إن نجاح المرء في إدارة الآخرين تعود إلى رؤيته للعالم، فإن كان من النوع الذي يجعل من الصغائر أمورًا كبيرة تهمّه وتشل حركته، فمن الطبيعي أن يكون كما يقول المثل الشعبي «يغرق بشبر ماء». وإن كان من النوع الذي يتعامل مع الأمور حسب ماتحتاجه دون تهويل أو تهوين، فإنه سينجح في تقدير الاختيارات المناسبة والتي في الغالب تكون أقرب إلى الصواب. وقد قال أبو الطيب المتنبي:
على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ
وتأتي على قدر الكرام المكارمُ
وتعظم في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم