د. عبدالرحمن الطريري
لافت للانتباه حديث البعض بإسهاب عن إنجازات الآخرين ونجاحاتهم، في حين ترى هذا المتحدث فردا كان أو جماعة أو مجتمعا بكامله لم يسع إلى بلوغ ما بلغه من يدور الحديث عنه وعن نجاحاته وإنجازه. جيلنا الحاضر يكرر الحديث عن إنجازات الآباء والأجداد والفتوحات التي قاموا بها، فكلنا يتذكر الحسن بن الهيثم، جابر بن حيان، ابن رشد، طارق بن زياد، وخالد بن الوليد وإنجازاتهم، والأثر الذي أحدثوه في المجتمعات الأخرى التي وصلوا إليها، وذلك بدخول شعوبها الإسلام واستخدامهم اللغة العربية، إضافة إلى الاكتشافات والنظريات التي قدمها علماؤنا الأوائل للبشرية كالحسن بن الهيثم وابن خلدون والخوارزمي، الذين تركوا بصمات واضحة المعالم في الحضارة البشرية.
صحيح أنه لا بد من ربط الفرد والمجتمع بكامله بجذوره وإبراز أعلامه وربط الجيل بهؤلاء الأعلام، ليس فقط للافتخار بها، لكن للاقتداء كذلك، حيث هذه الكوكبة تمثل نموذجاً يفترض أن يحتذى ويقتدى به.
تأملت في هذا الموضوع فحاولت أن أسترجع شيئاً من المخزون الثقافي الجمعي الذي يعلمه الجميع، وأربطه بالطريقة التي نفكر بها في الوقت الراهن، وأثر هذا في الصورة التي نحياها. العمل وبذل الجهد والإنجاز أكد عليها القرآن والسنة المطهرة ''وسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون''، ''لئن يحتطب أحدكم خير من أن يسأل الناس أعطوه أو ردوه''، كما أن الأمثال الشعبية فيها كثير مما يؤكد دور الفرد منذ قرون. أمثال من مثل ''لا تقل أصلي وفصلي أبداً إنما أصل الفتى ما قد حصل'' و''ليس الفتى من قال كان أبي
ولكن الفتى من قال هآنذا''.
هذه كلها تؤكد ضرورة الحضور الفردي والدور الفاعل له، بدلاً من الارتهان لإنجازات أصبحت ملك الذات الجماعية وملك التاريخ.
ترى لماذا هذا الإغراق في الحديث عن إنجازات الآخرين؟ أسباب كثيرة تدعو لذلك؛ أهمها أن شعوراً داخلياً لدى الفرد يحرك لديه ميكانيزم الدفاع عن الذات، وإيهام المستمعين بعلاقته بأصحاب هذه الإنجازات، وفي هذا نجاح لهم يجعلهم في موقف أفضل أمام الآخرين. كما أن من الأسباب مشاعر الحسد التي توجد لديه؛ وهو بهذا الحديث قد يضمن حديثه عبارات تشي بالسوء لأصحاب هذه الإنجازات كاتهامهم بالرشوة، أو السرقة، أو التحايل لبلوغ ما حققوه. كما أن قسماً آخر من الناس حين يتحدث عن إنجازات الآخرين يتحدث عنها من باب الإطراء والإعجاب وإظهار المحاسن، وهذا ما يفترض أن يحدث في الحالات السوية، وهي شكل من أشكال تقمص الشخصية الوهمي، الذي لا يصاحبه فعل حقيقي.
النفس البشرية عجيبة في تركيبها – وجل من خلقها – حيث أودعها كثيرا من الأسرار والبواعث التي تحركها وتوجهها في السلوك، والعلاقات مع الآخرين، وبصورة أو صور لا تخطر على البال، ففينا النفعي الذي يقيم علاقاته على أساس المصالح، بحيث تنتهي العلاقة بانتهاء المصالح، وفينا المؤْثِر الذي يقدم الآخرين على ذاته، وفينا المؤاخي، وفينا المشاكس، وفينا المقدر للآخرين وإنجازاتهم، وفينا المنكر والجاحد.
إعجابنا بالآخرين – وحق لهم ذلك – وصل إلى حد ذكرهم، والإشادة بإنجازاتهم في المجالس، ووسائل الإعلام، والمؤتمرات، والمنتديات، كما هو الحال تجاه اليابان أو كوريا الجنوبية أو أمريكا، أو حتى العدو الصهيوني، الذي لم يمض على تأسيسه إلا بضع وستون سنة، ومع ذلك أنجز ما عجزت عن إنجازه أمة مضت عليها قرون، ولنا في هذا الوضع مثال بالغ في الوضع الذي بلغنا، حيث أصبح الحديث عن إنجازات الآخرين متعة نتسلى بها، لكن لم نقف مع ذواتنا ونتساءل: أين نحن من الإنجاز الذي بلغه أسلافنا الذين ننتمي إليهم، أو أولئك الذين لا تربطنا بهم أي صلة عدا صلة الإنسانية؟