عزيزة المانع
ظل الحج زمنا طويلا، تميزه سمة التماثل بين الحجاج فيما يتعرضون له من مشقة الحج وما يصيبهم من الشعث والغبار ووهج الشمس المحرق، وغير ذلك من أشكال المشقة المصاحبة لأداء الفريضة، في غياب واضح للتفاوت الطبقي المادي بينهم. أما في أيامنا هذه فإن مظهر الحج بدأ يعتريه تحول تدريجي يجرده من تلك السمة الخاصة به، لقد بدأ الحج يأخذ سمة عبادة يتجلى فيها التمايز المادي بين الناس في أسوأ صورة، وهي سمة مغايرة تماما لمقاصد الحج الذي يتصف بأنه عبادة يغيب فيها التفاضل بين الناس وفق ما يملكونه من مال، فيمتزج الغني بالفقير دون تمييز، في حال هي أشبه بما سيؤول إليه حالهم يوم الحشر.
هذا التحول في مظهر الحج لم يصنعه الناس قدر ما صنعته بعض الاجتهادات التنظيمية للحج، فما يبدو جليا للعيان أن بعض ما فرض من تنظيمات لضبط حملات الحج فرض من منظور سياحي يتعامل مع الحج كسياحة يرجى منها در المال، وغاب عنه أن الحج في المقام الأول ركن من أركان الإسلام وفريضة واجبة الأداء على كل من استطاع أداءها، وأن الحجاج على اختلاف طبقاتهم الاقتصادية متماثلون في حاجتهم إلى تأدية هذه العبادة في يسر وسهولة قدر المستطاع، وأن الدولة ــ حفظها الله ــ معنية بخدمة الحجاج كافة من غير تمييز بينهم؛ إيمانا منها ــ كما جاء على لسان سمو أمير منطقة مكة المكرمة نائب رئيس لجنة الحج العليا، في المؤتمر الصحفي الذي عقده يوم الأحد الماضي ــ بأن الحج «ليس لقاء سياسيا ولا اقتصاديا». لكن بعض تلك التنظيمات لم تراع ذلك، وصارت عاملا في دعم إبراز الفروق الاقتصادية بين الحجاج بصورة تغيب عنها عدالة الفرص في حصول الجميع على حج ميسر، وذلك مثل التصنيفات التي أقرت لتنظيم حملات الحج، فتصنيف الحملات لم يقتصر على نوع الخدمات التي تقدمها الحملة، ولو أنه فعل لهان الأمر، وقلنا إن ذلك يدخل ضمن ما سنه الله بين عباده من تفاوت في الرزق، لكن التصنيف تجاوز هذا فجعل من موقع الحملة قريبا من الجمرات أحد معايير التميز!!
والحق أن المشاعر المقدسة هي في الأصل مكان عبادة مشاع للحجاج جميعهم بدرجة واحدة فقيرهم وغنيهم، وليس من حق الغني أن يستأثر بالموقع الأفضل بماله. ومن هنا، فإن معايير تصنيف حملات الحج لا ينبغي أن يدخل ضمنها موقع الحملة، وأن يكون توزيع المواقع بين الحملات على اختلاف مراتبها متماثلا يتيح لحملات غير المترفين فرصة الحصول على مواقع جيدة بنفس الدرجة التي يتيح بها ذلك لحملات المترفين. وشبيه بهذا شغل معظم المناطق القريبة من الحرم بالفنادق الكبيرة الفاخرة، التي لا ينتفع بها سوى الحاج أو المعتمر الغني، أما غير القادر ماديا فإنه مضطر للسكن في مناطق بعيدة يشق السير منها وإليها كلما حان وقت الصلاة في الحرم الشريف، ولو أن المساحة التي حول الحرم قسمت بنسب عادلة ما بين فنادق فاخرة وأخرى متوسطة وبسيطة لوجد جميع الحجاج على اختلاف مراتبهم الاقتصادية فرصا متماثلة في السكن القريب من الحرم. أو لو أن الساحات القريبة من الحرم تركت فارغة لتستوعب أعداد الحجاج بيسر أكثر، وأنشئت حميع الفنادق بعيدا عن الحرم وربط بينها وبينه بقطارات تسير على مدى 24 ساعة، لتحقق للناس تكافؤ الفرص في التمتع بمجاورة الحرم، ولما استأثرت بذلك طبقة الأغنياء وحدها.