يحي الأمير
قرابة أربعة ملايين نسمة، في وقت واحد وفي زمن واحد.. يا له من تحد على كل المستويات: الأمنية والصحية والمرورية، وما يرتبط بكل واحد منها من تفرعات وأخطار واحتمالات لا يمكن التنبؤ بها.
دخلت السعودية إلى ما يمكن تسميته بصناعة الحج، واستوردت من التقنيات والأفكار والخبرات العالمية ما يؤكد مضيها في حالة من التحدي الذاتي الذي تسعى من خلاله لتحويل كل موسم حج ليكون متفوقا على الموسم السابق، وقد كان قطار المشاعر وخطط التفويج ومسارات انتقال الحجاج تشير إلى تغيير نوعي عن العام الماضي، وتشير أيضا إلى أن العام القادم سوف يكون مختلفا.
في الواقع وبلا مبالغة لا يمكن التعاطي مع الحج إعلاميا من خلال نظرة محايدة، فالتحديات لا تمتحن، لأنها في الأصل عبارة عن امتحان، وبالتالي تتم قراءته من خلال ما يشهده من تغيرات نوعية، ومن تطورات بين عام وآخر.
تعاملت بعض الشخصيات في مواقع التواصل الاجتماعي مع حادثة الزحام والاختناق الجزئي الذي شهدته إحدى بوابات قطار المشاعر كما تتعامل مع قضايا الاختناقات المرورية وقضايا تصريف السيول، أي من خلال منظور خدمي عام بعيدا عن سياق الحج وواقعه وازدحامه، بل ظهرت تعليقات يمكن القول إنها كانت متحمسة للغاية، ولم تراع واقع الحدث ولا سياقاته.
لا يمكن أن يمر موسم الحج دون مخالفات من الحجاج، سواء من الداخل أو من حجاج الخارج، ذلك أن الأنظمة مهما كانت صارمة وواضحة إلا أن القضية تكمن في استيعابها والإيمان بضرورة الالتزام بها، وهو ما لا يمكن ضمانته من أربعة ملايين نسمة يختلفون لغويا وثقافيا ومذهبيا.
الأخبار التي تواردت عن حالة الزحام أمام قطار المشاعر تشير إلى احتمالية تسبب إحدى حملات الحج فيما حدث، بسبب عدم التزامها بالموعد المخصص لها، إضافة إلى أن بعض الحجاج غير النظاميين يتسببون كثيرا في اختناقات ومفاجآت بسبب عدم وجودهم ضمن أرقام التدفقات البشرية للحجاج وانتقالاتهم. هذا ليس مجرد توقع ولا احتمال، فالأرقام والإحصاءات تشير إلى أن إجمالي عدد الحجاج المخالفين ممن لا يحملون تصريحا للحج وصل إلى مليون وأربعمئة ألف حاج، وهو الرقم الذي أعلنه الأمير خالد الفيصل، ناهيك عن أن الرقم الفعلي للحجاج المحدد بثلاثة ملايين نسمة قد تجاوز الحد في هذا العام بما يزيد عن نصف مليون حاج.
ما يزيد عن مئة وعشرين ألفا من رجال الأمن تولوا هذا العام مهمة الإدارة الميدانية للحجاج في تنقلاتهم وأمنهم وسلامتهم. الصور ومقاطع الفيديو التي تم تناقلها تجعلنا نشعر بكثير من الفخر والامتنان والاعتزاز، حين ترى رجل أمن يحمل امرأة مسنة بين ذراعيه أو يحمل رجلا طاعنا في السن، وحين يتكاتف مجموعة من رجال الأمن لدرء الزحام عن بعض الحجاج ممن يحملون أطفالا معهم أو مريضا، كل هؤلاء الرجال لا يقومون بما يمليه عليه واجبهم فقط، بل بما يمليه عليهم إيمانهم بما يقومون به واعتزازهم بهذه الخدمة التي يؤدونها. هذا الفخر وهذا الاعتزاز هو في الواقع شأن سعودي عام. ومثل تلك المظاهر نشاهدها أيضا لدى شباب الكشافة وكوادر وزارة الصحة وغيرهم من الجهات العاملة في مواسم الحج.
ربما لا يوجد في العالم أية فعالية تماثل موسم الحج، على مستوى العدد والحركة والتنقل والمكان المحدد والزمن المحدد. وبالقياس مع كثير من الأحداث ذات الطابع الجماهيري في كل بلدان العالم من كرنفالات وفعاليات واحتفالات لا يحدث أبدا أن يكون مثل هذا الجمع في مكان واحد وفي توقيت واحد، وهو ما يؤكد أننا أمام تحد سنوي، لكن مما سهله الله لنا أن بتنا نعيش تحديا مع أنفسنا كل سنة، وهو ما يجعلنا نقول بكل اعتزاز إن من أبرز الصفات التي يعتز بها إنسان هذه الأرض خدمته واستقباله ودوره في هذه الشعيرة التي يجتمع عليها المسلمون كل عام.