(1)الزمن (الجميل).....
لعل القول الفلسفي الشهير بأن»بالنقائض تعرف الأشياء»يفسر لنا كثيرا من المشاهد التي يحاك حولها كثير من اللغط والنقد (والمقاربات بحسب ما أفضل تسميته).
وإذا أردنا فتح المشهد أكثر لخرجنا بمشاهد متنوعة, بدأت تداعياتها قبل ثلاثة عقود من الزمن معنا نحن الذين نحسب أننا آخر الجيل في الزمن الجميل..الجميل على كافة المستويات واختلاف المشاهد: الحس الديني العميق الذي اختزلت مخرجاته (جدتي) في غرفة علوية باردة تقام فيها الصلوات صباح مساء,ويلهج بين جدرانها الدافئة بالتسبيحات والأدعية,ولسان لاينطق بسوء على فلان,حتى على الذين تجرعت منهم المر أشكالا وألواناً(أما الذي اخترع لها مكيف الغرفة..فتطلب منا أن ندعو له..لعل الله يهديه!)..بدأت الفكرة الدينية تتشكل في وجداننا منذ تلك اللحظة الغابرة..ثم بدأت في الإيضاح ونحن نرى الشيخ علي الطنطاوي مرصعاً بالبياض مجللاً بالعلم يقتعد مقعده الأثير أمامنا على شاشات التلفزيون ليتحدث حديثاً طيباً مباركاً مفعماً بسماحة الاسلام وأنوار الهدى وقصص سيد المرسلين..وبالمثل فقد كان الشيخ محمد بن عثيمين قد بلغ الآفاق ذكره علماً وفقهاً وسماحة وتواضعاً وحكمة..مدرسة شرعت أبوابها للطالبين والمريدين فنهلوا منها وعبوا,وكانوا أجمل الثمار لشجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء..أما سماحة مفتي البلاد الشيخ عبدالعزيز بن باز فقد كان حكاية لاتنتهي فصولها من أنوار الإيمان وأدب اللسان وتواضع الجنان..والتي أكسبته محبة جارفة من عامة الناس ونخبها الدينية والثقافية والاجتماعية..
الآن-أحبتي-هل تغير شئ؟؟!!..
(2)التبعية الفكرية..أم إثبات الذات؟
في النقد الأدبي-على سبيل المثال-نجد أن التماهي التام مع أصول الاتجاه التاريخي الاجتماعي لدراسة النصوص,يحولها إلى مجرد وثيقة اجتماعية تاريخية بعيداً عن أية اهتمامات فنية ولغوية ما,وكذلك الحال في الدراسات النفسية الخالصة التي تتساوى أمام آلياتها النصوص جميعها-أدبية أو غيرها-في غمرة تحويل النص إلى حقل تجارب نفسية فحسب.
وتتجاوز تلك النظرة الأحادية النص الأدبي إلى النصوص الفكرية عبر التاريخ,فالأصولية الماركسية تعتبر قراءة ماركس هي القراءة الوحيدة الصحيحة المطابقة,وما عداها من قراءات انحراف وضلال,والأصولية الوجودية حصرت كل جهودها في تهويمات خيالية عابثة لم تصمد أمام العقل الانساني.
الفكرالتقليدي في حقيقته ارتهان تقديسي تنزيهي إلى مقولات ينظر إليها دائما بكونها(أساسا) لكل معرفة لاحقة,وهو موقف(دوغمائي)أحادي في الحقيقة,وصاحب هذا الفكر يثبت بفكره عند زمن معين وحدث محدد,متعالقاً في كل الأحوال مع قول/نموذج يتخذه معيارا في النظر والتفسير,أو في العمل والممارسة.
تنطبق هذه التداعيات الأحادية على الفكر التقليدي, الذي يقر بنهاية الغايات الكبرى في تأويلات بشرية يجب مطابقتها في كل الأماكن والأحوال والظروف,وما خالفها يجب رفضه ومحاربته ,رغم ان الحديث يظل دائما في دائرة المتحولات المتغيرة(أساسا)بحسب النظرة الكلية الايجابية للمنظومة الفكرية في علاقتها بتلبية حاجات الانسان المتغيرة بتغير الشواهد والمواقف..!
( 3) الاحتكار المعرفي
التبعية التقليدية الفكرية تتفاعل مع الفرد بوصفه ذا هوية مسبقة متعالية ومكتملة, وترتضي ان يختم على عقلها ووجدانها بتوقيعات ماضوية, لتكون النتيجة الاستقالة من التفكير النقدي المستقل في دوامة الانهماك الدائم بحماية الافكار الأولى والسعي المستمر على التطابق معها,واستبعاد كل ماتولده التجارب الحية والمعارف الجديدة والأصول المستجدة من تنوع وثراء,بداعي احتكار المعنى وممارسة الوصاية على الاسماء والنصوص والتيارات الأدبية والثقافية المتنوعة..
وبالتأكيد فإن مشهد ممارسة احتكار المعرفة في العلوم الانسانية كان من الممكن قبوله حين كانت الأمية شائعة والمصادر غير متوفرة(على عكس مانشاهده حاضرا من إمكانية وجود مكتبة كاملة في قرص ممغنط واحد),في الوقت الذي استمات المفكرون-وقتها-في الإغراق في تعقيدات وتفصيلات أدت إلى عزوف كثيرين عن الاطلاع عليها من غير مساعدة دائمة,وأسهم شيوع التقليد في غرس هذه الصعوبة في الذهنية الجمعية,وذلك بالتهويل من الصعوبات التي تحول بين الفرد والقراءة المستقلة لنصوصه الفكرية وفهمها فهماً ممكناً!
(حملة السكينة)