د. عمار بكار
من يتأمل الفرق بين حياتنا اليوم وحياتنا في عام 1990م (أي قبل 18 سنة فقط) يلاحظ فرقا هائلا لا يكاد يصدق، فنحن اليوم في عصر الإنترنت والموبايل والقنوات الفضائية، ولو تخيلت حياتك ليوم واحد من دون هذه المكونات الثلاثة لتذكرت بكل عجب كيف كانت حياتنا مختلفة.
التكنولوجيا غيرت مفردات حياتنا بسرعة هائلة، ولكن هذا التغيير لم يقتصر فقط على التفاصيل الحياتية، بل إن المجتمعات نفسها والحياة السياسية بتفاصيلها في مختلف أنحاء العالم صارت تتغير بسرعة هائلة حتى صارت الفروق بين الأعوام على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي كبيرة بشكل لم يكن معهودا للبشرية من قبل.
كنا في حوار في مساء من مساءات الرياض حول هذا الموضوع، وكان الحديث عن التغيرات السريعة التي تمر بها المنطقة من كل جانب، وحينها لفت الدكتور سليمان مرداد نائب محافظ هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات الانتباه إلى أن سرعة التغيير مرتبطة بعامل رئيسي وهو "وفرة وسرعة انتقال المعلومات".
في الثمانينيات وبداية التسعينيات الميلادية لما كان الحديث يدور عن "سوبر هايوي للمعلومات" (الذي ترجم عمليا عن طريق إنشاء وتوسيع شبكة الإنترنت)، كان الناس يتناولون أثر ذلك على البحث العلمي وعلى التنمية والتطوير، ولكن يبدو أن أحد الجوانب التي لم يتم التركيز عليها هو ذلك المرتبط بالتغيير الاجتماعي والسياسي، الذي صار يتحرك بسرعة مثيرة بسبب التكنولوجيا والمعلومات.
هذا يعني أن العادات الاجتماعية التي حافظت لعشرات أو مئات السنين على ثباتها وصمدت ضد ظروف كثيرة قد تتغير في ظرف سنوات قليلة بسبب التكنولوجيا وثورة الاتصالات، وهذا يعني أن المجتمع يحتاج لآليات مختلفة تماما للتخطيط والحفاظ على استقراره في ظل عصرنا الجديد المختلف تماما عن العصور السابقة. خذ مثلا التجربة الإيرانية وما حصل بعد الانتخابات، وقارنها بما حصل في إيران أثناء الثورة على شاه إيران. خلال أيام قليلة صار العالم كله جزءا من القصة الإيرانية، بل استطاعت بعض القنوات الفضائية عرض أفلام وثائقية فيها كثير من الصور الخاصة والجهد المميز عما يحصل في إيران بعد الانتخابات، بينما كانت مثل هذه الأفلام تأخذ أشهرا على أقل تقدير لإنتاجها. أكاد أجزم أن الحكومة الإيرانية لم تقدر أثر ثورة المعلومات في تغيير مسار الأمور بهذا الشكل، وأكاد أجزم أن كثيرا من الأنظمة الحكومية حول العالم مبهورة أيضا بأثر الإنترنت والموبايل والقنوات الفضائية وتفكر في السبل التي تساعدها على السيطرة على هذا الانفجار المعلوماتي وآثاره التي لا يمكن التحكم فيها، وأكاد أخيرا أجزم بأنه مهما فعل العالم اليوم فإن تحجيم سرعة وكثافة انتقال المعلومات فإن ذلك سيذهب سدى وبلا فائدة.
هذا أمر منذر بالخطر على بعض الأصعدة، لأن التغير الذي يأتي مع المعلومات هو في كثير من الأحيان تغير سلبي، وخاصة بالنسبة للمجتمعات النامية لأن الأقوى في طرفي معادلة التدفق المعلوماتي هو الغرب، الذي ستتدفق منه المعلومات والرسائل الإعلامية بشكل أضخم وأسرع وأقوى تأثيرا، ما يعني أن المجتمعات النامية ستتغير اجتماعيا وبشكل سريع لصالح النموذج الغربي والقيم الإعلامية الأمريكية، وهذا قد يمثل جرس إنذار لخطر لا أظن أن أحدا يعرف بالضبط كيف يمكن مواجهته.
وفي الحقيقة لا يمكن التحدث عن آثار التكنولوجيا والمعلومات على الحياة الاجتماعية في مقال واحد، لأن الأمر صار من التوسع بحيث تكونت مكتبة كبيرة من الكتب المهتمة بقضايا أثر التكنولوجيا والمعلومات على المجتمعات، بل إن بعض الجامعات الغربية أسست تخصصات للدراسات العليا باسم "التكنولوجيا والتغيير الاجتماعي" Social Change & Technology، كما أن هناك مجلات علمية متخصصة في هذا المجال تحت العنوان نفسه، وهناك كتب عن مختلف النظريات التي تتناول هذا المجال التي تترجم سنوات من البحث العلمي في هذا المجال.
ولعله من المؤسف أن المجتمعات الأكثر تأثرا بثورة التكنولوجيا والمعلومات هي الأقل اهتماما بهذا الموضوع (مقارنة بالمجتمعات الغربية)، وباستثناء محاولات الطبقة الدينية والثقافية لإيجاد عزل من نوع ما لهذه التأثيرات (وهي في النهاية محاولات فاشلة فشلا ذريعا)، فإن جهودنا الأخرى الأكثر فاعلية تكاد تكون معدومة.
في الأسبوع القادم سأتناول نتائج بعض الدراسات التي تتناول تأثير التكنولوجيا على الأسرة وعاداتها، وهي إن كانت دراسات غربية إلا أن كثيرا من نتائجها يمكن الاستفادة منه في فهم ما يحصل اليوم للأسرة العربية.