د. سعيد بن على العضاضي
تطرقت من قبل إلى موضوع ضغوط العمل في مقالين متتابعين بينت من خلالهما ما المقصود بضغوط العمل؟ ومراحل تكونها؟ وما أكثر أنماط الشخصيات تعرضا لضغوط العمل؟ وفي هذا المقال أريد أن أستكمل الجزء الثالث وأعرض بعض المقترحات والتوصيات التي بينها علماء السلوك التنظيمي للسيطرة على ضغوط العمل من أجل أن نحافظ على صحتنا ونستمتع بأعمالنا وألا نرى أنفسنا عند نهاية خدمتنا أن الوظيفة أخذت منا أكثر مما أعطتنا. وهذه التوصيات وتلك المقترحات ليست ترفا نأخذ به أو نتركه، بل ضرورة حتمية وحاجة أساسية فقد تعقدت الوظائف وتشابكت مهامها واختلطت مسؤولياتها، خصوصا في الدول النامية التي لا يعرف كثير من الموظفين ما مهام أعمالهم بالضبط، بل إن بعض المنظمات تتحاشى توصيف الوظائف حتى يعمل الموظف في أكثر من وظيفة وينجز أكثر من عمل. لذا في ظل هذه الظروف يجب أن تكون لدينا آليات للتعامل مع البيئة التنظيمية التي نعمل فيها ومهارات ننجز بها أعمالنا حتى لا نكون ضحية للضغوط الوظيفية التي ستورثنا لا محالة الأمراض العضوية والاضطرابات النفسية والانحرافات السلوكية.
والتوصيات التي سأذكرها أصلها علماء النفس والسلوك والسلوك التنظيمي وجربها الكثيرون وأفادوا منها فأصبحت حياتهم الوظيفية شبه خالية من الضغوط. وهي وإن كانت كثيرة ومتعددة إلا أنني سأعرض آلية واحدة فقط حسب المساحة المتاحة، ويمكن الرجوع إلى البقية في مصادرها الأساسية.
أولا وقبل كل شيء حتى قبل أن تبدأ بممارسة السلوكيات الرشيدة في أداء عملك عليك أن تعلم وتدرك أهمية ضغوط العمل وتأثيرها في صحتك، فاذا كنت مدركا لهذا فلتواصل قراءة المقال، أما إذا كنت ترى أن ليس هناك ضغوط وظيفية وأن العمل يمكن أن يسير بسلالة دون أن يكون له تأثير في صحتك ونفسيتك، فمقال كهذا لا يعنيك. عندما يواجه الموظف موقفا لا يعجبه يتملكه الغضب وفي ثورة الغضب هذه ينسى انعكاس مثل هذا الشعور على صحته وآثاره المدمرة في جسده فيتمادى في شعوره، وقد يتطور أمره فيدخل في صراعات مع زملائه ورؤسائه ومرؤوسيه وينظر إلى الأمر كأنه حرب يوجد فيها منتصر وخاسر، بينما هو الخاسر مهما كانت النتائج.
بعد أن نعي وندرك الضرر الكبير الذي تلحقه بنا ضغوط العمل يجب أن نتعود جميعا على أن ننجز أعمالنا، فالإنجاز إحدى الوسائل التي تشعر الإنسان بالسعادة وتحقق له المتعة. لكن نلاحظ أن بعض الموظفين من أفراد وقياديين يريدون أن ينجزوا عدة مهام في وقت واحد، وهذا هو الخطأ بعينه، فما لم نرتب المهام الوظيفية اليومية حسب الأهمية وننجزها واحدة تلو الأخرى فلن يتحقق لنا الشعور بالإنجاز. فإذا كنت موظفا فما عليك سوى ترتيب مهامك التي ترى أو تطالب بإنهائها اليوم على شكل قائمة ثم تبدأ بالمهمة الأولى حتى تنهيها بالكامل ولا تبدأ بالمهمة الثانية حتى تنهي الأولى تماما وهكذا حتى ترى نفسك في آخر النهار وقد أنجزت الكثير والكثير، وليس بالضرورة أن تنجز جميع ما في القائمة، المهم أنك أنجزت بكفاءة عالية، وهذا بدوره سيشعرك بالسعادة.
وهذا الأمر ليس حكرا على المرؤوسين، بل القياديين أيضا، فينبغي عليهم ترتيب المهام الإدارية والقيادية حسب الأهمية كل بدوره وفي ساعته وألا تنتقل من موضوع حتى تنجز الذي قبله، وإن كان عملك يحتم عليك مقابلة الجمهور فيجب أن يكون لقاؤك مع المراجعين فردا فردا وليس كما نرى في بعص الإدارات من تكدس المراجعين عند المسؤول كل يعرض طلبه في وقت واحد، فمثل هذا يصيب المدير بالتوتر ولن يحقق الإنجاز ألبتة. وأنا أعلم أن بعض المديرين يستمتعون بمثل هذا المنظر إلا أن هذه الفئة لا تهدف إلى الإنجاز ولا تريد أن تقضي مصالح الناس، بل تريد الاستمتاع بشهوة السلطان، وهؤلاء مستثنون من كلامنا هذا.
كما أريد أن أنوه هنا إلى أن الباب المفتوح أو سياسة الباب المفتوح التي نسمع عنها لا تعني أن يبقى باب المسؤول مفتوحا دائما، لكن يُفتح إذا كان المسؤول غير مرتبط بعمل مع أحد موظفي المصلحة أو مع مراجع آخر، ونرجو ألا يفهم الأمر بغير معناه، فالمسؤول قد يختلي بالمراجع، بل يجب أن يختلي به في مكتبه ويغلق الباب عليهما حتى يأخذ هذا الأخير حقه ويركز في طلبه ثم يخرج ويأتي من بعده وهكذا.
نعود إلى موضوع فكرة المهمة الواحدة في الوقت الواحد فنقول إذا أردت أن ترسخ مثل هذا في ذهنك عليك أن تخلي مكتبك من جميع الأوراق والقضايا التي لا تحتاج إلى إنجازها في هذه الساعة وتركز عملك فقط في موضوع واحد، فبمثل هذا ستتمكن من إنجاز مهامك وتنهي يومك بسلام. عندما تدخل على أحد القياديين أو الموظفين فتجد مكتبه خاليا من الأوراق المتراكمة والأعمال والملفات الضخمة فاعلم أن هذا يحقق الإنجاز ويؤدي عمله بكفاءة، بل يستمتع به، لأنه يعلم كيف يدير وظيفته مهما كان حجمها، وهذا بدوره يعطينا مؤشرا إلى أنه بعيد عن ضغوط العمل. وعلى النقيض تماما إذا قدر لك ودخلت على أحد الموظفين أو القياديين في أي قطاع فتنظر إليه لا تكاد تراه من ضخامة الملفات والأوراق التي تغطي مكتبه، فهذا لديه مشكلة تنظيمية وضغوط وظيفية وعدم تنظيم، ومن ثم فهو لا محالة عرضة لضغوط العمل التي سبق أن تكلمنا عنها في مقالات سابقة، وهذه الفوضى ستقوده إلى الأمراض المزمنة كضغط الدم والسكري وإن كان هذان المرضان قد تمكنا منه فستقبل عليه أمراض أخرى.
هذه أول خطوة وأهم خطوة يمكن أن نتبعها كي نخلص أعمالنا من الضغوط، وهناك الكثير والكثير يمكن الرجوع إليها من مصادرها الأصلية في أدبيات الإدارة والسلوك التنظيمي.