المحور الثالث
الغلو مظاهره وأسبابه أسباب الغلو العلمية والمنهجية
وعلاجها
( الخوارج أنموذجا )
للدكتور عبد الرحمن بن معلا اللويحق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، أما بعد : فقد تفاوتت استجابات الناس لدعوات الرسل : - فمنهم المستقيم المتمسك بالحق . - ومنهم المفرط الزائغ المضيع لحدود الله . - ومنهم الغالي المتجاوز لحدود الله . وكل أولئك وجدوا فيمن سبق أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهم في أمته متوافرون ، فجاءت النصوص ناهية عن سلوك سبل أهل الزيغ ، كما جاءت ناهية عن الغلو ، ولست بصدد بيان ذلك ، وإنما تمحضت هذه الورقة للكلام عن : أسباب الغلو العلمية والمنهجية ( الخوارج أنموذجا) .
وفاتحة القول في ذلك أن أقدم بمقدمة حول الأسباب : معناها ، ومنهج استخراجها ، وملاحظ عامة حول أسباب الغلو .
لقد جعل الله لكل شيء سببا ، وجعل الظواهر والمشكلات التي يقع فيها الناس راجعة إلى أسباب سائقة إليها ، وهذه سنة من سنن الله - عز وجل - في الخلق والكون .
ومشكلة الغلو ليست بدعا من المشكلات إذ لها أسباب لإيجادها ، وأسباب لإمدادها .
والأسباب هي : العوامل المؤدية إلى الوقوع في الغلو سواء أكانت متعلقة بالجانب الذاتي للغالي أو الجماعة الغالية ، أم كانت متعلقة بالبيئة المحيطة به .
وهذه الأسباب قد يكون تأثيرها في إحداث الغلو ابتداء ، وقد يكون تأثيرها في إمداده واستمراره ونشر مظاهره .
ولقد اجتهدت في دراسة أسباب الغلو العلمية والمنهجية عند الخوارج عبر عدة وسائل أهمها :
1 - قراءة آراء الخوارج العقدية ، ومحاولة استنتاج الأسباب التي دفعتهم إلى غلوهم ، والمداخل المنهجية التي أدت بهم إلى الغلو .
2 - دراسة تاريخ الخوارج ، وذلك بتتبع أحوالهم منذ بداية التكوين ثم دراسة تطور عقائدهم ، وتتبع حالات المد والجزر في تاريخهم ، ومعرفة التحولات والافتراق في تاريخهم ؛ إذ من شأن تلك الدراسة أن توقف على الأسباب والمواقف الدافعة للغلو .
[ص-148] 3 - قراءة المؤلفات التي درست الخوارج : تاريخا ومعتقدا ؛ لمعرفة أسباب غلو الخوارج من وجهة نظر أصحاب تلك المؤلفات ، وتلك الاستفادة لا تعني أن ذكر الأسباب نابع من رأي الآخرين ، بل هو جهد شخصي ناتج عن تتبع واستقراء ، وإنما وقع الاستئناس بآراء الآخرين وتحليلاتهم فهي مؤكدة ، لا مؤسسة .
وليس المراد هنا حصر الأسباب إذ الإحاطة الشاملة بجميع الأسباب غير ممكنة إذ طرق الشر والانحراف غير منحصرة في الأصل ، قال أبو بكر الطرطوشي - رحمه الله - : ( والخطأ لا تنحصر سبله ، ولا تتحصل طرقه ، فاخط كيف شئت ، وإنما الذي تنحصر مداركه وتنضبط مآخذه فهو الحق ؛ لأنه أمر واحد مقصود يمكن إعمال الفكر والخواطر في استخراجه ، وما مثل هذا إلا كالرامي للهدف ، فإنَّ طرق الإصابة تنحصر ، وتتحصل من إحكام الآلات ، وأسباب النزع وتسديد السهم . فأما من أراد أن يخطئ الهدف فجهات الأخطاء لا تنحصر ولا تنضبط إلا أن نذكر من ذلك حسب الإمكان ) .
وهنا أنبه على أن دراسة الأسباب يجب ألا تتجه إلى أن تكون تبريرا للغلو ، وإيجادا للعذر عند الغلاة ، فهذا المنهج التبريري لا يولد في المآل إلا مزيدا من الغلو ؛ ويجعل الغالي يسقط غلوه وجرمه على الناس .
وكم من متكلم في بعض قضايا الغلو يذكر بعض الأسباب ويجعلها مبررا للغلو ، وهذا يهون الأمر في النفوس بل قد يجمع بعض الناس بذلك مزيدا من الأدلة ووسائل الإقناع للغلاة أو الجمهور المتلقين .
إن الغلو قد يوجد في البيئة السليمة لكن لأن وجهة النظر المبنية على الجهل والظلم تجعل ما ليس بخطأ خطأ وقد وقع ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم . فعن أبي سعيد الخدْري - رضي الله عنه - قَالَ بَيْنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْسِمُ - يَعْنِي الْغَنَائِمَ - جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ : اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! فَقَالَ : وَيْلَكَ مَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ ، قَالَ : دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ .
فهذا ظن لسوء طويته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جار فقال قولته الشنيعة ، وكذلك فعل الخوارج حين رفعوا دعوى إبطال التحكيم ، فاستدلوا بقوله سبحانه ( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)(سورة الأنعام الآية 57) [ص-149] فالقول الذي قالوه حق ، ولكن زعمهم أن عليا حكم بغير شرع الله باطل .
ولذلك قال علي - رضي الله عنه - ( كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ ) قال الحافظ ابن حجر : ( وكان أول كلمة خرجوا بها قولهم : لا حكم إلا لله ، انتزعوها من القرآن ، وحملوها على غير محملها ) فنحن وإن ذكرنا بعض الأسباب وأنها من العوامل التي أوقعت في الغلو لا نفتح بابا للعذر للخوارج وإنما نشخص الواقع ؛ لتكون المعالجة على أصل قوي .
المصدر: حملة السكينة