د. محمد بن يحيى آل مفرح
العبادات في الإسلام ليست مجرد مظاهر وشعائر, بل تحمل في حقيقتها معاني وأخلاقيات حسنة وفوائد اجتماعية عظيمة ومتعددة, ولن تكون أبدا رحلة الحج مثل أي رحلة ترفيهية أخرى تنقضي فينتهي أثرها, ولذا فقد سبق أن ذكرنا أن من منافع الحج أن يجعل حياتك بهدف, وأن يوجه المشاعر لتكون دافعا إيجابيا نحو الهدف, فإذا حصل ذلك فستظهر لنا المنفعة التالية وهي بناء الشخصية الجادة. ولما للحج من أثر في بناء شخصية جادة راسخة كان واجبا على الفور.. وهو ما أدركه العلماء وعملوا به, ومن الأمثلة عالم شنقيط محمد المصطفى عالم الذي ارتحل فكان أول له سفر له إلى الحج سنة 1274هـ, فعاد وشيد مدينة السماوة وألب القبائل ضد الاستعمار وجدّ في تلقي معظم العلوم الدينية وصنوف الأدب وألف كثيرا من الكتب, وهكذا نلاحظ كثيرا ممن يحجون يعودون بعد الحج أكثر همة ولديهم طاقة ورغبة في تحقيق شيء آخر له قيمة.
إذا علمنا أن الحج واجب على الفور عندما تتحقق الاستطاعة فكل عمل يتوجب على الجاد يبدأ فيه بلا تأخير.. قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم "من أراد أن يحج فليتعجل, فإنه قد تضل الضالة ويمرض المريض وتكون الحاجة" حيث حسن.
الحج يغرس في النفوس أن الجدية هي سبيل الحياة, وأن حياة الفراغ وحياة العبث لا مكان لها, فتلحظ أن أعمال الحج كثيرة وكلها تحتاج إلى عمل ومشقة وجهد ونصب, فمن لم يكن جادا لا يمكن أن يقضي حجه, ومن كان متكاسلا في أعماله وحياته لا يمكن أن يصل إلى مطلوبه ومراده من نواحيه الدنيوية والأخروية.. لا يمكن أن ينتج ويصل إلا إذا كان جادا في حياته.
من بداية الحج يأتي الإحرام والاجتهاد في التلبية, هذه اللحظة تسمى لحظة البداية, ومن كانت بدايته محرقة كانت نهايته مشرقة.. الإحرام يعني الانخلاع من جميع الشهوات الأرضية والبداية الجادة لمرحلة نوعية حيث يحظر على الإنسان أشياء غالبها كان مباحا .. لذلك كان للسلف مواقف عجيبة عن الإحرام .. فكان أنس بن مالك ــــ رضي الله عنه ـــــ إذا أحرم لم يتكلم في شيء من أمر الدنيا حتى يتحلل من إحرامه.
ومع الإحرام يحتاج إلى أن يهتف بالتلبية بقلبه قبل أن ينطق بها لسانه, ولاحظوا أن الذي يعلن عن هدفه فإنما يقطع على نفسه كل خط للرجعة, ويشحذ همة نفسه, كان أصحاب النبي ــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ إذا أحرموا لم يبلغوا الروحاء حتى تبح أصواتهم, لقوله ـــــ صلى الله عليه وسلم ــــــ "أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية". ولذلك فكل عاقل يمكنه مع هذا الموسم العظيم أن يحرم هو أيضا بأن يجعل لنفسه انطلاقة جديدة قد تضطره إلى أن يمنع نفسه من بعض رغباته ولو مؤقتا حتى يبدأ مرحلة جديدة نوعية من حياته .. ويعلن عن هذه المرحلة وينطلق في سبيل تحقيقها بكل معاني الجدية.. أذكر في قصة لشخص أعرفه كان يعاني ظروفا مادية قرر أن ينتقل إلى إحدى الدول الغربية ليواصل دراسته ويحصل على جنسية تساعده في مسيرته العلمية .. وكان ذلك يتطلب ثلاث سنوات من التقشف الأسري الشديد حتى يمكن الاستعداد لهذا الانتقال.. وأذكر أنه قال لي بنفسه إنهم انتقلوا إلى مسكن أصغر وكانوا لا يتوسعون في الأكل ولا الملابس .. وسافروا وأكملوا الدراسة وأخذوا الجنسية وعادوا فكانت أوضاعهم المادية في قامة الراحة. وأذكر شخصا وصل إلى قناعة أن لديه ضعفا علميا وثقافيا كبيرا بسبب عدم القراءة, فاتخذ قرارا أن يكون وقته بعد صلاة العشاء يوميا ولمدة عام كامل متفرغا للقراءة ثلاث ساعات قبل النوم, واعتذر لكل من حوله عن أي ارتباطات بعد صلاة العشاء.. فأخبرني أنه كان يقرأ بمتوسط 200 صفحة يوميا وكان لذلك أثر كبير في شخصيته وحياته.
ممارسة الأنشطة الجادة .. يعطي الفرد نضجا وعمقا وإدراكا ما كان يعرفه قبل ذلك .. ولذا فمن الطريف أن بعضهم صنف في المناسك, فلما حج أحرق كتابه وصنف كتابا آخر وتعزى بعض أوهام ابن حزم ـــ رحمه الله ــــ في بعض مسائل الحج إلى كونه لم يحج كما ذكر ابن القيم في "زاد المعاد".
الحج يعلّم كل فرد أن يعمل بإتقان وجودة تقتضي مستوى عاليا من الإخلاص والإيمان بالهدف.. وهذا مقياس للجدية, فقد يبدأ البعض عملا ويجد فيه ثم يتوقف أو ينتهي وهو دون المستوى المطلوب .. تذكر أننا نبحث عن الحج المبرور وليس مجرد الحج.. ولذلك أيها الكريم تجد الجدية تنعكس على صاحبها حتى في وقت راحته ولهوه .. وأذكر أن أحد الفضلاء المعاصرين كان يسأل الشيخ ابن باز ـ رحمه الله: "إذا كان المرء وقت راحته يفكر في مشاريع وأفكار تنفع المسلمين .. هل ينال الأجر من الله تعالى على ذلك؟ وأذكر أحدهم أقام مع أبنائه في المنزل مشروعا صغيرا وهو إنشاء غرفة في ملحق البيت .. فتعلم كل أفراد الأسرة مبادئ النجارة والسباكة والبناء في متعة وتحد .. ويقول إنه ظهرت له من أبنائه الكثير من المهارات والمواهب التي ما كان يعرف عنها من قبل. وهنا يجب أن نكون واقعيين .. هذه الجدية ليست سهلة في وسط مجتمع يتفنن في البحث عن ابتكار وسائل تضييع الوقت.. ولذا فعليك أن تشحن عزيمتك وتتذكر التالي .. النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال للسيدة عائشة ـ رضي الله عنها "إن لك من الأجر على قدر نصبك ونفقتك" صححه الألباني .. وقد جرت سنة الله تعالى بأن الذين يسيرون نحو أهدافهم بجدية يحصلون على ثمار يانعة كثيرة في الدنيا قبل الآخرة .. أعرف من اجتهد في التجارة والعمل الحر منذ صغره وكان في الوقت الذي يستمتع أقرانه بشراء سيارة جديدة أو يسافرون للمتعة كان يستثمر ماله في شيء نافع .. فكان أن أصبح من كبار رجال الأعمال في بلده وحقق سمعة عالمية وهو في الثلاثينات من العمر.
الحج يعلمنا الجدية .. والجدية تقتضي مكابدة المشاق .. لذا كان العلماء يجمعون مشاق العلم مع رحلة الحج وينطلقون في مشاريع إصلاحية كبرى بعد الحج .. ومنهم صالح الفلاني الذي جاء من منطقة تحاذي نهر السنغال وتنقل ثم مكث في المدينة المنورة ومات فيها 1218هـ بعد أن اشتهر بكونه محدث الحجاز بلا منازع في نهاية القرن الثاني عشر وبداية الثالث عشر.
الشخصية الجادة تحتاج إلى كثير من السلوكيات والأخلاق الرفيعة .. وهو ما نلمسه في رحلة الحج .. ستجد أكثر من 20 سلوكا وخلقا حميدا يدربك الحج عليها ليغرسها في نفسك.. وهذا هو عنوان منفعتنا القادمة ــــــ بإذن الله.