د. محمد بن يحيى آل مفرح
بعد استعراض عدد من منافع الحج التي قد تغيب عن أذهاب البعض خلال حلقاتنا السابقة.. فذكرنا الهدف الذي يجب أن يتبناه كل فرد وجماعة في الحياة، والمشاعر التي يجب أن نسخرها لتحقيق الهدف وتجاوز عقباته، والجدية اللازمة لتحقيق الهدف، والسلوكيات التي يجب على الشخصية الجادة أن يتحلى بها، والتي تحقق له روابط إيجابية حقيقية تبنى عليها علاقات فردية وعامة تفتح آفاقاً لمنافع عديدة تجارية واقتصادية وثقافية.. حان الوقت لنقول إن كلّ ذلك قد يتطلب منا توقفاً محسوباً وانطلاقة جديدة.. فطبيعة النفس أنها تألف الحال وترفض التغيير إذا لم يكن هناك بداية ملموسة.. ولاحظ هذه النقطة العجيبة: كثير من عبادات الحج تأتي بعد أن يقف المسلم في عرفات ويخرج منها وقد أمّل مغفرة الذنب وقبول العمل.. (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام).. ويستمرّ بعد انتهاء الحج (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً).. إذن الانطلاقة مباشرة وليست بعد حين.
اقرأ هذا الحديث الرائع عن طواف الإفاضة الذي يأتي بعد مغفرة الذنوب:»وأما طوافك بالبيت بعد ذلك فإنك تطوف ولا ذنب لك, يأتي ملك حتى يضع يديه بين كتفيك فيقول اعمل فيما تستقبل فقد غُفر لك ما مضى».. فما أجمله من شعور دافع نحو انطلاقة جديدة مفعمة بالحماس.. وأنت حتى لو كنت على الطريق الصحيح ناجحاً في أمور دينك ودنياك.. عليك أن تبقى مشغولاً بانطلاقة جديدة محفزة نحو قمة أعلى.
قال الله تعالى في الحديث القدسي: (إن عبداً أصححت له جسمه، ووسعت عليه في معيشته، تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إليّ لمحروم) فأنت تفد على الله تعالى كلّ فترة من الزمان لتكتسب المزيد من الخيرات وتنطلق مجدداً نحو آفاق أوسع.. ولا سيما أن موسم الحجّ يأتي في آخر العام الهجري.. فهي فرصة للمراجعة والاستعداد لعام قادم جديد مثل حال أغلب التجار والشركات في آخر كل عام: يعملون الجرد السنوي والمراجعة العامة استعداداً لوضع الميزانية اللازمة لعام قادم.
في انطلاقتك الجديدة تذكر أن تبدأ بجدية وقوة وسرعة.. مثلما تبدأ الطواف بالرمل والاضطلاع.. هكذا اصنع في طريقك لأهدافك وطموحاتك. وستفرح بالنتائج مثلما يفرح الحاج بالعودة لما أبيح له قبل الإحرام.. من لبى لله في الحج فليلبِّ له في كل مكان وزمان بالاستجابة لأمره أنى توجهت ركائبه، وحيث استقلت مضاربه، لا يتردد في ذلك ولا يتخير ولا يتمنع ولا يضجر.
قد تحتاج في انطلاقتك الجديدة أن تتأكد من هدم ما مضى من أخطاء وتقصير وسلوكيات غير صحيحة.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «..وأنّ الحج يهدم ما كان قبله» رواه مسلم. فالبناء الجديد يجب أن يكون على أسس سليمة صحيحة بعيدة عن الدنس والشوائب. لن تنطلق بشكل صحيح إلا إذا هدمت الخطأ هدماً.
الانطلاقة الجديدة تساعدك على ألا تتوقف عند نجاحات الماضي.. ولا تمنّ بها ولا ترائي.. ولا تكتفي بالتُحدث عنها ولو إلى نفسك.. بل تتذكر أن الله سبب كل نعمة ونجاح حصل لك.. وتستمر في أخذ بالأسباب والانطلاق وبذل قصارى جهدك.. وهذا خطأ عدد من الناس حين يحجون أو يأتون طاعة أو عملاً ناجحة.. فيتوقف عن التقدم للخير والعطاء.. ويبقى على ذكر ذلك العمل وربما يكتفي به فيكون سبباً في هلاكه.
إن من عجائب أسرار فريضة الحج هي أن الإنسان كما يحس في داخله جذباً شديداً إلى أدائها، كذلك تجد يتملكه الإحساس بضرورة الإسراع في العودة ولقاء الأهل بمجرد انتهائه منها، فتراه يستبق الآخرين بهذا الشأن، رغم أنه عانى ما عانى من أجل الوصول إلى بيت الله الحرام وأداء سائر المناسك وهذه هي طبيعة الحج، إذ إنه دعوة الغرض منها التفضل من الله عليهم بولادة جديدة، وفور ولادتهم عليهم بالعودة إلى أوطانهم ليطبقوا ما استفادوه على أنفسهم وليفيدوا الآخرين.
وأرجو أن تلاحظوا معي أن الفرد مدار أغلب منافع الحج.. سواء الدنيوية أو الأخروية.. الذي لا يتيسر له الذهاب إلى الحج يجب ألا يقع في خطأ أنه بمنأى عن المنافع الدنيوية والأخروية.. فلديه الكثير من المجالات ليستثمر موسم الحج.. إذا لم تحج لا تنتظر أن يحج أحد عنك.. وإذا لم تستثمر العشر من ذي الحجة فلن يفعل أحد ذلك بالنيابة عنك.. إذا لم تسعَ لأن تحافظ على علاقاتك الطيبة في أجواء البيت والعمل.. الحج فرصة عظيمة لتجعله نقطة تحول في حياتك إلى الأفضل.. وإذا لم تجنِ منه الفائدة فسيجنيها غيرك.. وإذا لم تستثمره فسيستثمره غيرك.. الحج فرصتك الكبرى للتغيير, وطريقتك المثلى لتحصل على الهدف والغاية الكبرى مغفرة الذنوب ودخول الجنة.. فلا تدع هذه الفرصة تفوتك.. لأنك لا تضمن أن ترجع إليك مرة أخرى..
تلكم بعض اللمحات تُضاف إلى كثير من الآثار والمنافع التي يشهدها المسلمون في الحج، والتي أشار إليها المولى عز وجل بقوله: }لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ{(الحج:28).. إذاً فهي دنيوية وأخروية.. فردية وجماعية.. تجل عن الحصر.. فهنيئاً لمن استفاد منها..