د. محمد بن يحيى آل مفرح
الحج مؤتمر جامع للمسلمين قاطبة، مؤتمر يجدون فيه أصلهم العريق الضارب في أعماق الزمن منذ أبيهم إبراهيم الخليل: (ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل)، ويجدون محورهم الذي يشدهم جميعا إليه: هذه القبلة التي يتوجهون إليها جميعا، ويلتقون عليها جميعا.. ويجدون رايتهم التي يفيئون إليها.. راية العقيدة الواحدة التي تتوارى في ظلها فوارق الأجناس والألوان والأوطان.. ويجدون قوتهم التي قد ينسونها حينا.. قوة التجمع والتوحد والترابط الذي يضم الملايين.. وهذه حقيقة الروابط الإيجابية التي يجب أن نعيش بها لنشعر أن كل يوم من حياتنا فيه سعادة وسرور وثمرة جميلة نسعد بها في الدنيا ونفوز بها في الآخرة.
الحج هو الفريضة التي تلتقي فيها الدنيا والآخرة، كما تلتقي فيها ذكريات العقيدة البعيدة والقريبة.. ويلتقي فيها كل مسلم بأخيه من مشارق الأرض ومغاربها.. قال ـ صلى الله عليه وسلم: «جهاد الكبير والصغير والمرأة الحج والعمرة» أخرجه النسائي وحسنه الألباني.. والذين يشاركونك الهدف والإيمان قلبيا هم معك حتى لو بعدوا عنك بدنياً.. قال ـ صلى الله عليه وسلم: «إن أقواما خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا حبسهم العذر» أخرجه البخاري.
وفي الوقت الذي يحج فيه الحجاج.. المسلمون في كل مكان يكبرون ويصومون.. ولذا فهي أيام تجمع المسلمين جميعا.. رابطة تلبية وتكبير لله تربطنا أكبر رابط.. ترديد التلبية والتكبير يهدف إلى توليد نفسية معينة تعي أن العظمة لله وحده، ويجب على كل جوانب العظمة الأخرى أن تنحني أمام هذه العظمة الكبرى وأن تتبعها. وهذا الشعور هو أكبر الأسرار الاجتماعية، فلا تقوم الحياة الاجتماعية والوحدة حيث يظن الكل أنه عظيم.
رابطة عرفة.. كل المسلمين في وقت واحد الحاج وغير الحاج.. يشتركون في هذه الطاعة العظيمة لله، فمنهم الواقف بعرفة.. ومنهم الصائم.. عرفات رمز الأمة والرسالة، كم وقفت بساحتها من جموع، وكم تعانقت فوقها قلوب، وتعارف على راحتيها الناس وذابت في محيطها الأجناس، وتوحدت رغبات الراغبين.. هذه المنفعة العظيمة للحج تقودنا إلى أن نحرم عن الحرم حين يحرم الحجاج عن الحلال.. وأن نبعد عن الفحش والهوى حين يبعدون عن الطيب والزينة.. أن نصل قلوبنا بهم وأوبتنا بانكسارهم، نتشارك موسم الأرباح وبساتين الفلاح.. فالوقوف بعرفة هو مؤتمرنا العالمي الذي نفاخر به أهل الأرض جميعا حين يجتمعون بدعوات ومراسيم وقوانين.. وحين يتجمع المسلمون حول ربهم خلال الحج فهم يكتشفون كذلك سر تحويل كثرتهم العددية إلى وحدة، إنهم يكتشفون أسرار دنياهم بينما هم يتلقون أسرار آخرتهم.. وهكذا تدور مناسك الحج الأخرى.. فهي تعلمنا بأسلوب أو بآخر أن نتحد وأن نعمل معا بتناغم كامل.
رابط العيد والنحر الذي هو أكبر العيدين وأفضلهما.. يشترك المسلمون جميعا في الفرح والسرور في جميع الأمصار، من شهد الموسم منهم ومن لم يشهده، وذلك لاشتراكهم في العتق والمغفرة يوم عرفة، ولذلك شرع للجميع التقرب إلى الله بذبح الأضاحي وإراقة دماء القرابين.. فيكون ذلك شكرا منهم لهذه النعم.. وأفراح المؤمنين وسرورهم في الدنيا إنما هي بخالقهم إذ فازوا بإكمال طاعته وحازوا ثواب أعمالهم بفضله ومغفرته.
المسلمون الجدد.. يشعرون بعد الحج بانطلاقة عظيمة تزيد مشاعرهم بالإسلام.. لما يرون من تجمع المسلمين وتوحدهم.. فيعودون إلى بلادهم بروح جديدة وعزيمة قوية.. في قرية في جنوب دولة تشاد، كان السلطان من أوائل السلاطين الذين اعتنقوا المسيحية، ثم أنعم الله عليه بنعمة الإسلام، وفي اليوم الذي أسلم فيه لم ينم إلا بعد أن حفظ سورة الفاتحة وسورة الإخلاص. ثم حج وعاد إلى قومه وقد استشعر الرابطة الحقيقية.. فأسلم على يديه أكثر من ثمانين ألفا، كان من بينهم ثمانية سلاطين. حتى يمكن القول: إن الخارطة السكانية في جنوب تشاد قد بدأت تشهد تغييرا ملحوظا في الانتماءات الدينية، وما ذلك إلا نتيجة لجهود ذلك السلطان وأتباعه. لقد تأثروا تأثرا بليغا من مظاهر الوحدة والإخاء التي وجدوا عليها المسلمين.. وأرادوا أن يعيشوا هذه الرابطة الحقيقية في قومهم.. فكانت رحلة الحج بالنسبة لهم ميلاد عهد جديد، عرفوا خلاله حقيقة الإسلام.
الذين يتخذون من الكعبة قبلة ليسوا هم من نراهم في المسجد الحرام فقط.. المسلمون في كل أنحاء العالم يتجهون خمس مرات كل يوم نحو الكعبة لأداء صلواتهم.. وتظل هذه الدائرة ـ التي نشاهدها داخل المسجد الحرام ـ تتسع حتى تشمل الكرة الأرضية كلها.. فالمسلمون في كل مكان، ومن كل ناحية، يتجهون صوب الكعبة خمس مرات كل يوم لأداء الصلوات.. وهذه ناحية اجتماعية عظيمة لا مثيل لها في أية جماعة دينية أو غير دينية في العالم.. وهذا هو النظام العظيم الذي استمر مئات السنين.. ولو أخذنا من الحج الدرس الذي يهدف إليه هذا النظام العظيم لوقعت النهضة الحقة في حياة المسلمين.. فالكعبة رمز توحيد الله على وجه الأرض وهي في الوقت نفسه رمز وحدة المسلمين واجتماعيتهم.
رابطة الأخوة الإيمانية حُرم من لذتها الكثير.. عندما استبدلوها بروابط وقتية أو مكانية محدودة.. إنها رابطة بين أناس اكتسبوا كثيرا من الأخلاق الرفيعة والسلوكيات الإيجابية التي جعلت منهم جادين يسيرون في طريق نحو هدف مشترك بدافعية وحماس لا ينقطع.. يرويهم الحب الذي يظمأ دونه الكثير في هذا الزمان.. الحب الصادق الحقيقي.. الذي جعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتمنى أنه لو رأى إخوانه الذين سيأتون بعده.
تحقيق هذه الرابطة الإيجابية الحقيقية.. يمكن أن يؤدي إلى كثير من العلاقات الخاصة والعامة التي تثمر الكثير من المنافع التجارية والثقافية والأدبية وغيرها بتوفيق الله.. وهذا هو عنوان منفعتنا المقبلة بتوفيق الله تعالى.