د. محمد بن يحيى آل مفرح
من أعجب منافع الحج التي تغيب عن العديد من الناس .. أنه يدعونا بشكل مباشر وغير مباشر إلى اكتساب المال وطلب الرزق والمتاجرة .. ويفتح أمامنا الكثير من فرص الاستثمارات .. تأملوا في قول النبي عليه الصلاة والسلام: «تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة»، وأرجو أن يتأمل كل منا في الرابط بين المتابعة بين الحج والعمرة .. وبين زوال الفقر؟. فإن في الحج مصالح تتعلق بالدنيا ومصالح تتعلق بالآخرة .. وأنت إذا توجهت إلى الغني الذي يملك خزائن السموات والأرض وبذلت الأسباب، سيغنيك مِن فضله ويفتح عليك أبواب الرزق والفرص من حيث لا تحتسب ويكتب لك البركة حتى تجد أثرها في كلّ حياتك. في قصة لطيفة قال أحد الحجاج السابقين: كنت في طريق مكة فجلست أستريح، فإذا إلى جانبي عصفور على حجر، فلم يبرحْ ولم يستوحش، فجعلت أبصر إليه يجيء الذباب فيضرب منقاره فيفتح فاه فيدخل الذباب فيه، فرأيت هذا منه مراراً، فقمت إليه فإذا هو أعمى والذباب الذي يجيء إليه رزقه. وهكذا قد يسخر الله لك بسبب الحج معارف وفرص وأفكارا ومدارك وهمة لزيادة رزقك ومالك.
من الصور غير المباشرة التي تتحقق بها هذه المنفعة .. النبي عليه الصلاة والسلام قال: «والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» وفسّر الحج المبرور في حديث جابر قال: «إطعام الطعام، وطيب الكلام» كيف يمكن للحاج الوصول إلى إطعام الطعام والإحسان للغير إذا لم يكن يملك مالاً حلالاً مباركاً واسعاً يستطيع أن يُحسن به؟. ونحن نشاهد الكثير من نماذج الخير في موسم الحجّ مِن توزيع الأطعمة والمشروبات والتكفل بالنفقات الكاملة للوفود والأيتام والمسلمين الجدد وغيرهم لأداء فريضة الحج.
نذكر أن التجارة جائزة في الحجّ شرط ألا تشغل صاحبها عن أداء الفريضة .. فالعاقل من يجمع النية الصالحة والتجارة الرابحة .. ويقوم بالتوفيق بين عمل الدنيا وعمل الآخرة: فإن الله سبحانه وتعالى دعا عباده إلى العمل والتكسب لأجل المعيشة، ومع ذلك دعا إلى المسارعة والمسابقة إلى طاعته، مما يدل على أن طريق الدنيا والآخرة طريق واحد.. والذي يشعر بغير ذلك فإما أن لديه تصوراً خاطئاً، أو أنهم يعملون فعلاً في شيء مما حرمه الله، أو أنهم غلَّبوا جانب الدنيا على جانب الآخرة في الاهتمام .. انظر في مسألة الغرس التي يغرسها الإنسان في الأرض، مع أن ظاهرها قضية دنيوية، ولكن لها في الآخرة اتصال وثيق (ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة، إلا كان له به صدقة) رواه البخاري . قال ابن حجر، رحمه الله: وفي الحديث فضل الغرس والزرع، والحض على عمارة الأرض. قال أبو هريرة: إن المهاجرين كانوا يذهبون إلى الأسواق، والأنصار يعملون في النخل.. إنها حركةٌ عجيبة.. حركة المجتمع المدني في عهد النبوة! الجهاد قائم، وطلب العلم قائم، والعبادة قائمة، والتجارة قائمة، ورعي الغنم قائم، والزراعة قائمة، فالمجتمع يعمل للدنيا والآخرة. وقال صخر الغامدي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم بارك لأمتي في بكورها) وكان صخرٌ صحابياً تاجراً، وكان إذا بعث تجارة بعثهم من أول النهار فأثرى وكثر ماله.
الحج يعلمك التكسب مع استحضار كثير من المعاني النبيلة في التعامل، أراد تاجر قبل بضعة أعوام أن يجمع بين الحج والتجارة، فاستأجر شاحنة ملأها بما لذّ وطاب من المواد الغذائية التي يحتاج إليها الحجاج في عرفة ومزدلفة ومنى، وحينما عاد بعد انتهاء الحج سأله أهله عن أحوال تجارته، فقال: لقد آثرت التجارة مع الله .. فقد وجد أن التصدق والإحسان للمسلمين والحجاج في ذلك المقام العظيم أكثر ربحاً. وحدثني صديق أنه كان لوالده دكان صغير أمام الحرم منذ أكثر من ثلاثين عاماً .. ومرة وقف أمامه حاج تركي كبير في السن وقال له إنه موسر لكن ضاع ماله ولا يريد أن يعود لأبنائه بلا هدايا الحج .. فساعده صاحب الدكان وأخذ عنوانه في تركيا، وبعد عشر سنوات سافر صاحب الدكان وسأل عن العنوان فوجد الرجل قد مات وترك لأبنائه وصية أن إذا جاء صاحب الدكان فعليهم أن يخيروه بين ما شاء من أملاكه.
وهنا نطرح سؤالاً: من الذي يمكن أن يستفيد تجارياً في موسم الحج؟ .. والحقيقة أن هناك آلاف الأفراد والمؤسسات التي تستفيد من هذا الموسم لتحقق عوائد طيبة .. منهم أصحاب المحال الذين يبيعون السلع المختلفة مثل البقالات والمطاعم وغيرها .. ومنهم أصحاب المصانع الذين ينتجون السلع مثل ملابس الحج وأدوات النظافة والهدايا التراثية وغيرها.. ومنهم أصحاب الفنادق والشقق المفروشة وأصحاب المباني التي تؤجر للحجيج.. ومنهم شركات وحملات الحج ومن يرتبط بها من وكلاء ومكاتب خدمات سياحية حول العالم.. ومنهم سيارات النقل والأجرة وشركات النقل البري وشركات خطوط الطيران الجوي وشركات النقل البحري ومن يرتبط بهم من وكلاء ومكاتب سياحة حول العالم..
والذي يرتبط بموسم الحج العظيم.. يجد أن الحاجة كبيرة للكثير والمزيد من الخدمات المقدمة .. وهذا يعني فرصاً أكبر للمتاجرة والاستثمار .. مثل خدمات توفير وإيصال الطعام والشراب، خدمات الصيانة لمباني الحجاج، توفير العمالة المدربة رجالاً ونساء، خدمات الإدارة والتسويق المتخصص للحملات .. كلها وغيرها مجالات كبرى لاستثمار موسم الحج على مستوى الأفراد أو الشركات.
وهذا ليس كلّ شيء .. فإن كثيراً من الأفراد يمكنهم بقليل من التفكير والعزيمة أن يستثمروا موسم الحج بشكلٍ يدرّ عليهم عائداً مالياً مباركاً - بإذن الله - خاصة إذا أحسنوا النية، سواء كانوا داخل مكة حيث الحجّ أو بعيداً عنها داخل وخارج السعودية .. وهذا موضوعنا في المنفعة القادمة - بإذن الله - آفاق استثمارية يتيحها موسم الحج..