شبكة الألوكة - الشيخ عبدالله بن صالح القصيِّر
الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارَكَ على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فهذه نصيحةٌ بشأن نازلةِ المظاهرات على الحُكَّام والحكومات، أذكُرها حفظًا للدِّين، ونصيحةً للمسلمين، وتحذيرًا من مكايد أعداء الملة وخصوم الأمَّة، وبيانًا لمناهج السلف الصالح من الأمَّة، المجتمعين على الكتاب والسُّنة، المخالفين لأهل الأهواء والبِدعة.
وأمَّا الحكَّام والحكومات: فمن كان منهم ناصرًا للدِّين، ورحيمًا بالمسلمين، وغائظًا لأعداء الدين، فإنَّ الله مبتليه وناصره ولو بعدَ حين؛ كما قال - تعالى -: عن موسى - عليه السلام - أنَّه قال لقومه: ﴿ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الأعراف: 128]، وقال سبحانه: ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر: 51]، وقال - تعالى -: ﴿ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 129]، ﴿ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 6].
وأما مَن خان الأمانة، وأفسد الدِّيانة، وغش الأمَّة، ومكَّن ومهد لأعداء الملة، فإنَّ الله منتقم منه ولا بد، إنْ عاجلاً أو آجلاً؛ قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾ [الفجر: 14]، وقال سبحانه: ﴿ وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 19].
وفي الصحيح عنِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ الله ليُملي للظالِم حتى إذا أخَذَه لم يُفلِتْه، ثم تلاَ قوله الله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102])).
وممَّا يبيِّن خطورة فقْدِ المجتمع للحاكم العام، وما يترتب عليه من المفاسد التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى قدْرًا ونوعًا: ما أورده ابنُ أبي العز - رحمه الله - في شرح الطحاوية عن بعض السلف أنَّه قال: "ستون سَنَة بإمام ظالم خيرٌ مِن ليلة بلا إمام"
قلت: فكيف إذا كانت أسابيع وأشهرًا وسِنين؟!
ومما أُثر عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قوله: "إمام غشوم - يعني: ظلوم - خير مِن فتنة تدوم".
والتاريخ بدواوينه في سائرِ الأعوام والأماكن شاهدٌ أنه ما حرَّض أناس على حاكمهم وثاروا ونالوا منه، إلا فتحوا على أنفسهم مِن أنواع الشر والمصائب ما لم يكن يخطُر لأحدٍ منهم على بال، أو يدور له في خيال؛ لذا أحببت أن أُذكِّر بجمل وأصول مأثورة معلومة مِن منهاج السلف الصالح في التعامُل مع الحكاَّم، مهتدين بهَدْي الكتاب والسُّنة، ومتميِّزين به عن أهل الأهواء والبِدعة، وبناء على ما سبق فإني أُذكِّر بأمور:
الأول: كان السلف الصالح يُولُون أمر الولاية العامَّة اهتمامًا خاصًّا - لا سيَّما عند ظهور بوادر الفتن - نظرًا لما يترتَّب على الجهل به أو إغفاله، ومعصية الله - تعالى - بشأنه مِن الفساد العريض في الدِّين والعباد والبلاد، والانحراف عن سبيلِ أهل الرشاد، فكانوا يُبيِّنون السُّنة في التعامل مع الولاة، ويُحذِّرون من طرائق وتصرُّفات أهل الأهواء والبدع؛ لما فيها من الفتن والشر؛ لأنَّ أهل السنة والجماعة يرَوْن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما تُوجِبه الشريعة، خلافًا لأهل الأهواء والبدعة الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وَفْقَ أهوائهم وبدعهم، كالخوارج والمعتزلة والرافضة، وأشباههم من أهل الباطل.
الثاني: وجود الحاكِم العام صمامُ أمان للمجتمع، به يتوفَّر الأمن العام، ويندحر السُّرَّاق وقُطَّاع الطرق وأطماع الدول.
الثالث: أنَّ مِن أعظم نعم الله تعالى على خلقه عامَّة والمسلمين خاصَّة، أن أوجب عليهم تحقيقَ ما فطرَهم عليه من تولية وليِّ أمر - حاكم عام - يكون مرجعًا للأمة، ويرجع إليه، ويُصدر عنه في أمر الأمْن والخوف، ويكون رأسًا لوحدة الأمة، وسببًا في حفظ الهيبة، وتأمن به السبل، وينتظم به الأمر والأمن العام، ويُدفع به أهلُ الفِتنة والشر والفساد، إلى غير ذلك من المصالح الكاملة أو الراجحة.
قال عليٌّ - رضي الله عنه -: "إن الناس لا يُصلحهم إلا إمام - حاكم عام - بَرٌّ أو فاجر، فإن كان برًّا فللراعي والرعية، وإن كان فاجرًا عبَدَ فيه المؤمن ربَّه، وعمِل فيه الفاجر إلى أجله"، ويُروى عن أنس - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إذا مررتَ ببلدة ليس فيها سلطان، فلا تدخلْها؛ إنما السلطان ظلُّ الله ورمحُه في الأرض)).
الرابع: أنَّ قيام الحاكم العام بمسؤولياته نحوَ الأمة من عظيم واجبات الدِّيانة، وأخصِّ أنواع الأمانة، التي ينبغي أن يتقرَّبَ إلى الله تعالى بتحقيقها، وأن يتقيَه - سبحانه وتعالى - فيها بأداء أمانتها، كما قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ﴾ [النساء: 58].
وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كُلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راعٍ ومسؤولٌ عن رعيته...))، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اللهمَّ مَن وَلِي من أمور أمَّتي شيئًا فشقَّ عليهم فاشْقُقْ عليه، ومَن رَفَق بهم فارْفُقْ به))، وقال: ((ما مِن عبدٍ يسترعيه الله رعية فلم يحُطْها بنصيحة إلا لم يجد رائحةَ الجنة))، فإن قام بواجبه فله وللمسلمين، وإن فرَّط في أمانته فالله محاسبُه ومجازيه بما يستحق، وهو سبحانه يتولَّى الصالحين.
الخامس: أنَّ تضييع الحاكم لأماناته، وتفريطه في مسؤولياته، لا يُبرِّر امتناع الأمة عن طاعته بالمعروف، ولا يسوِّغ لها عصيانه ومعارضته، فيجب على الأمة أن تطيع الحاكِمَ العام ونوَّابه بالمعروف، ولا تطيعه في المعصية، وأن تُعظم شأنه مِن غير غلو ولا جفاء؛ تعظيمًا لمنصبه، وحفظًا لهيبة الولاية، وقطعًا لأطماعِ أهل الشر والفِتنة فيه، وأن تصبر على أَثَرته وجَوْره؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُم ﴾ [النساء: 59]، وقوله: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النحل: 91]، وقولِه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أَدِّ الأمانةَ إلى من ائتمنك، ولا تخُنْ مَن خانك))، وقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اسْمَعوا وأطيعوا - أي: للحكَّام - فإنَّما عليهم ما حُمِّلوا وعليكم ما حُمِّلتم))، وقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((على المرءِ المسلم السمعُ والطاعة فيما أحبَّ وكرِه ما لم يُؤمرْ بمعصية الله))، وقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وإنْ ضرَب ظهرك - يعني: السلطان أو الحاكم - وأخَذَ مالك، فاسمع وأطِع))، وكان - صلَّى الله عليه وسلَّم - يبايع أصحابَه على السمع والطاعة - أي: في غير معصية الله - في العُسر واليسر، والمنشط والمكْرَه، وعلى الأَثَرة، وقال - عليه الصلاة والسلام -: ((أعطوهم الذي لهم، واسألوا اللهَ الذي لكم، فإن الله سائلهم)).
السادس: منصبُ الولاية العامة - الحاكم العام - منصبٌ ديني شرعي، تعبَّد الله الأمةَ برعاية حُرمته، وأداء حقوقه، والنصيحة له، والصبر على جَوْر مَن يكون فيه، وظلمه وأثرته، كما تُؤدَّى حقوق الوالد وذي الرحم والجار والشريك، بحسب حاله، وبغضِّ النظر عن شخصه وجِنسه، ودِينه وتعامله، بل على وَفق شريعة الله تعالى وهَدْي نبيه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وفي ذلك مِن تحقيق المصالح وتكميلها، وتقليل المفاسد وتعطيلها، ودفع الشرور، واتقاء المصائب، وغلق أبواب الفتن، ما لا يحصيه إلا اللهُ تعالى، فيجب أن تُؤدَّى حقوق الولاة إليهم في جميعِ الأحوال على قدْر الطاقة؛ دِيانةً لله تعالى، وامتثالاً لأمر رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتأسِّيًا بالسلف الصالح في معاملتهم لولاة الأمور.
السابع: وجوب تعظيم منصب الولاية والوالي، وجمْع الناس عليه؛ قال القرطبي رحمه الله (5/260): قال سهل بن عبدالله التُّستَريُّ - رحمه الله تعالى -: لا يزال الناس بخيرٍ ما عظَّموا السلطان والعلماء، فإن عظموا هذين أصْلَح الله دنياهم وأخراهم، وإن استخفوا بهذين أفسدوا دُنياهم وأُخراهم.
وقال الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله -: "فاللهَ اللهَ في فَهْم منهج السلف الصالح في التعامُل مع السلطان، وألاَّ يتخذ من أخطاء السلطان سبيلٌ لإثارة الناس، وإلى تنفير القلوب مِن ولاة الأمور، فهذا عين المفسدة، وأحد الأسس التي تحصل بها الفِتنة بين الناس" ا.هـ، من "رسالة حقوق الراعي والرعية".
الثامن: لا تجوز مبايعة أحد من الرعية والحاكم العام موجود قائم بصلاحياته، قال شيخ الإسلام ابنُ تيمية - رحمه الله - في "منهاج السنة": "إنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمَر بطاعة الأئمَّة - يعني: الحكام - الموجودين المعلومين، الذين لهم سلطان يَقدِرون به على سياسة الناس لا بطاعةِ معدوم ولا مجهول، ولا مَن ليس له سلطان ولا قُدرة على شيء أصلاً، فمَن نزل نفسه منزلةَ وليِّ الأمر الذي له القُدرة والسلطان على سياسة الناس، فدعا جماعةً للسمع والطاعة له، أو أعطَتْه تلك الجماعة بيعةً تسمع وتطيع له بموجبها، وولي الأمر قائمٌ ظاهر فقد حادَّ الله ورسوله، وخالف نصوصَ الشريعة. ا.هـ.
التاسع: تحريم السعي في خلْع السلطان وإثارة العامَّة على التظاهر عليه.
فائدة: قال شيخُ الإسلام ابن تيمية: "وأما أهل العِلم والدِّين والفضل، فلا يرخصون لأحد فيما نهى الله عنه من معصيةِ ولاة الأمور وغشِّهم، والخروج عليهم بوجهٍ من الوجوه، كما قد عُرِف من عادات أهل السنة والجماعة والدين قديمًا وحديثًا ومِن سيرة غيرهم.
وقال الإمام النوويُّ في شرحه لمسلم: "وأما الخروج عليهم - يعني: الأئمة - وقتالهم فحرامٌ بإجماع المسلمين، وإن كانوا فَسقةً ظالمين"، ونقل ابن حجر في "فتح الباري" عن ابن بطَّال قوله: "وقد أجْمَع الفقهاء على وجوبِ طاعة السلطان المتغلِّب والجهاد معه، وأن َّطاعته خيرٌ من الخروج عليه؛ لِما في ذلك من حقْن الدماء وتسكين الدهماء". ا.هـ.
وقال الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ - رحمه الله - في التحذير مِن السعي في إسقاطِ الحاكم مِن أجل فساده، وبيان أن ذلك خلاف منهاج السلف الصالح: "ولم يدرِ هؤلاء المفتونون أنَّ أكثر ولاة أهل الإسلام منذُ عهد يزيد بن معاوية - حاشا عمر بن عبدالعزيز ومَن شاء الله من بني أمية - قد وقَع منهم مِن الجرأة والحوادث العِظام، والخروج والفساد في ولاية الإسلام - يعني: الشيء العظيم والكثير - فسيرة الأئمَّة الأعلام، والسادة العظام معهم معروفة مشهورة؛ لا يَنزعون يدًا من طاعة فيما أمَر الله به ورسولُه مِن شرائع الإسلام وواجبات الدِّين، ثم ضرب مثلاً بالحجَّاج مع ظلمه وغُشْمه وقتْله ساداتِ الأمة، ومع ذلك كان مَن أدركه من الصحابة كابن عمر وغيره ومِن التابعين كابن المسيَّب وابن سيرين، والحسن وإبراهيم التيمي، لا يُنازعونه ولا يمتنعون مِن طاعته.
قلت: وذَكَر الخلال - رحمه الله تعالى - حادثةً وقعَتْ زمن الإمام أحمد - رحمه الله - قال: "اجتمع فُقهاءُ بغداد - في عهد الخليفة العباسي الواثِق - إلى الإمام أحمد بن حنبل، وقالوا له: إنَّ الأمر قد تفاقم وفشَا - يعنون إظهارَ القول بخَلْق القرآن وغير ذلك - ولا نرضى بإمارتِه ولا سلطانه، فناظَرَهم في ذلك، وقال: عليكم بالإنكار في قلوبِكم ولا تخلعوا يدًا من طاعةٍ، ولا تشقُّوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءَكم ودماءَ المسلمين معكم، وانظروا في عاقبةِ أمركم، واصبروا حتى يستريح بَرٌّ ويُستراح من فاجر، وقال: ليس هذا - يعني: نزْع أيديهم من طاعته والخروج عليه والسعي في خلْعه - صوابًا، هذا خلاف الآثار - يعني: نصوص الكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة".
وممَّا قاله الإمام أحمد - رحمه الله -: "لا يَحِلُّ لأحد أن يبيتَ ليلةً ولا يرى أن ليس عليه إمام برًّا كان أو فاجرًا".
قلت: ودليل ذلك ما ثبَت في صحيح مسلم رحمه الله عن ابن عُمرَ - رضي الله عنهما - سمعتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((مَن خَلَع يدًا من طاعة لقِي الله يوم القيامة لا حُجَّةَ له، ومَن مات ليس في عنقه بيعة مات ميتةً جاهلية)).
وقال ابنُ كثير - رحمه الله -: "والفاسق لا يجوز خلْعُه لأجلِ ما يثور بسبب ذلك من الفِتنة ووقوع الهرج"، وذكر ما في الصحيحين عن نافع - رحمه الله - أنَّ ابن عمر - رضي الله عنهما - جمَع بنيه وأهله، ثم تَشهَّد قال: "أما بعد: فإنَّا بايعْنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني سمعتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إنَّ الغادر يُنصَبُ له لواء يوم القيامة، يقال: هذه غدرة فلان))، وإنَّ من أعظم الغدر - إلا أنْ يكون الإشراك بالله - أن يُبايع رجلٌ رجلاً على بيع الله وبيع رسوله ثم ينكُث بيعته، فلا يخلعنَّ أحد منكم يَزيد، ولا يسرفنَّ أحد منكم في هذا الأمر، فيكون الفيصل بين وبينه".
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في "الفتح": "وفي هذا الحديثِ وجوبُ طاعة الإمام - أي: الحاكم العام - الذي انعقدت له البيعة، والمنع مِن الخروج عليه ولو جار في حُكمه، وأنه لا ينخلع بالفِسق" اهـ، وقال ابن كثير: "لمَّا مشى عبدالله بن مطيع وأصحابه إلى محمد بن الحنفية، فأرادوه على خلْع يزيد فأبى عليهم".
العاشر: إصلاحُ شأن الولاية يكون بالتوبة والدُّعاء والصبر على الجَور، والنصيحة للحكَّام والدُّعاء بصلاحهم، لا بالتظاهر عليهم والسعي في خلْعِهم؛ قال الحسن - رحمه الله -: "لو أنَّ الناس إذا ابتلوا مِن قبل سلطانهم صَبَروا ما لبثوا أن يَرفع الله - عزَّ وجلَّ - ذلك عنهم، وذلك أنهم يَفْزعون إلى السيف فيوكلون إليه، واللهِ ما جاؤوا بيومِ خيرٍ قط، ثم تلا قوله تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ﴾ [الأعراف: 137] الآية، وقال رحمه الله: "اعلم - عافاك الله - أنَّ جَوْر الملوك نقمةٌ مِن نقم الله، ونِقم الله لا تُلاقى بالسيوف، وإنما تُتقى وتستدفع بالدعاء والتوبة والإنابة، والإقلاع عن الذنوب، إنَّ نِقم الله متى لُقيت بالسيف كانتْ هي أقْطَع".
وقال: "إنَّه ليس ينبغي لمَن عمِل بالمعصية أن يُنكر العقوبة، وما أظن الذي أنتم فيه إلا مِن شؤم الذنوب، والسلام".
أخْرَج ابن ماجه والحاكم وصحَّحه، والبزار - واللفظ له - مِن حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - عنِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((السلطانُ ظلُّ الله في الأرض، يأوي إليه كلُّ مظلوم مِن عباده، فإن عدَل كان له الأجر وعلى الرعية الشُّكر، وإن جار أو حاف أو ظَلَم كان عليه الوزر وعلى الرعية الصَّبْر)).
وفي السُّنة لابن أبي عاصم بإسناد جيِّد عن أنس - رضي الله عنه - قال: "نهانا كبراؤنا مِن أصحاب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قالوا: لا تسبُّوا أمراءَكم ولا تغشوهم ولا تُبغضوهم، واتقوا واصبروا فإنَّ الأمر قريب"، وفي التمهيد عنه - رضي الله عنه - قال: حدَّثنا كبراؤنا من أصحابِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ أول نفاق المرء كلامُه في السلطان، وقال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: "إيَّاكم ولعنَ الأمراء، فإنَّ لعنهم الحالِقة - أي: للدِّين - واصبروا، فإنَّ الله إذا رأى ذلك منهم حبَسَهم عنكم بالموت"، وقال غيرُه: "إنَّ ما يدفع الله ببقائه - يعني السلطان - أعظمُ ممَّا يندفع بزواله".
الحادي عشر: من سُنة الله الكونية المطردة أنَّ القوم الذين يخرجون على سلطانهم فيقتلونه أو يعزلونه لا يَرْبَحون ولا يُفلحون، بل يرجعون بأخسرِ صفقةٍ، فأما في الدنيا فإمَّا أن يُسلَّط عليهم فيذلهم ويهينهم، أو يتسلَّط عليهم غيرُه فيكون أشدَّ جَورًا منه وأظلم، فما استبدل قومٌ حاكمَهم بمعصية الله ورسوله، فكان اللاحق خيرًا من السابق، بل قد يكون أشرَّ وأظلم، ولا تكون حالُهم مع اللاحق خيرًا من حالهم مع السابق، بل دون ذلك بكثيرٍ، حتى يتمنَّى عقلاؤهم حالهم مع السابق، ولن تعود، واعتبر هذا في التاريخ على امتداد الزمان وسَعَة الأوطان.
إنَّ أول تظاهرة غوغائية على الحاكم عُرِفت في الإسلام كانت تظاهرة الخوارج بفِكرة من عبدالله بن سبأ اليهودي، الذي حرَّض على أمير المؤمنين عثمان بن عفان، العابِد الزاهد، الحيي الكريم، المبشَّر بالجنة، والتي قتل فيها عثمان - رضي الله عنه - مظلومًا، وأهين بها أكابرُ الصحابة - رضي الله عنهم - وشاع فيه الرعب والخوف في المجتمع المسلِم، ونشط فيها أهلُ النفاق والدسيسة، وتوقَّفت لسببها جحافلُ الجهاد في سبيل الله، ووقع فيها الاقتتالُ والفتنة بين المؤمنين، وأشمت بهم أعداء الدِّين فلم تصلح الأوضاع بتلك التظاهرة، بل عظمت الفتنة، وتفاقمت المحنة، واشتدَّ الكرب، وعظُم الخطب، ثم تكررت تلك الفتنة والمصيبة، وكل مَن شارك في الخروج على عثمان وتسبَّب في قتله قُتِل أو عاش دهره ذليلاً حقيرًا.
وسند ذلك ما ثبَت عن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال سمعتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((مَن أهان سلطانَ الله في الأرض - أي: الحاكم العام، وليس في الحديث تقييد بذِكْر صلاحه أو فساده - أهانه الله)).
وجاء عن حُذيفةَ - رضي الله عنه - موقوفًا: "ما مشى قومٌ إلى سلطان الله في الأرض ليذلُّوه إلا أذلَّهم الله قَبل أن يموتوا".
قال ابن أبي زَمَنِين شيخُ قرطبة في زمانه: "ومِن قول أهل السنة: أنَّ السلطان ظلُّ الله في الأرض، وأنَّ مَن لم يرَ على نفسه سلطانًا برًّا أو فاجرًا كان على خِلاف السنة".
قلت: وإذا كان السلطانُ - الحاكم العام - ظلَّ الله في الأرض، فإهانتُه والتطاول عليه، ومنازعتُه اختصاصَه، والتحريض عليه، إثمٌ عظيم، وأمرٌ خطير، تكون عقوبته المعجَّلة كونية - كما أسلفت - وما عند الله مِن العقوبة لمن لم يتبْ أعظم وأكبر.
الخاتمة:
فإذا تبيَّن لك أيها المسلم المبارك، مِن خلال ما سبَق منهاجُ السلف الصالح؛ أهل السنة والجماعة، مع الحكَّام، وأنهم ملتزمون بهذا المنهاج دِيانةً لله تعالى، والتزامًا بشرائع الإسلام، واتِّباعًا للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا خوفًا من الحكَّام، ولا مداهنةً لهم مِن أجل دُنياهم ومناصبهم، فأذكِّرك بآيتين مِن كتاب الله تعالى، فيهما بشارة ونذارة كما قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37].
فأما الآية الأولى: فهي قوله تعالى: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 100]، فعليك أخي المسلم الكريم، بمنهاجِ أهل السُّنة والجماعة في الاعتقاد والقول والعمل، والتعامل مع الخلْق، كما هو مدوَّن في كتب العقيدة والسُّنة لأئمَّة أهل السنة، وأقرب ذلك العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية؛ حتى تعرِفَ أصولَ اعتقاد أهل السنة والجماعة، ومَن هو عليها مِن أهل زمانك، وحتى لا تخدع بالمخالِف الهالك فتهلِك معه لاتباعك غيرَ سبيل المؤمنين في شيءٍ مِن أصول وفروع الدِّين.
قال تعالى - وهي الآية الثانية -: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115]، فاحذر أن تكون مشاقًّا لله ورسوله، متبعًا غيرَ سبيل المؤمنين في حُكْم من أحكام الله؛ مِن أجْل الخلْق، أو لحظٍّ من حظوظ النفس، فتكون من أهل النار، وبئس القرار.
فالعاقل المتجرِّد من الهوى يفكِّر في أمره، ويحدد موقفه مِن حوادث زمانه؛ ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ﴾ [سبأ: 46]، فيَحرِص على أن يكونَ مِن التابعين للسابقين الأوَّلين بإحسان؛ حتى يكونَ مِن أهل الرضوان والجنان، ويحذر مِن شُبهات الذين يُزيِّنون للناس مشاقةَ الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين؛ ليكونوا من أهل النار؛ قال - تعالى -: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾ [الأنعام: 112].
رزقَنا الله جميعًا العلمَ النافع، والعمل الصالح، وأعاذنا مِن مضلات الفتن، ما ظهَر منها وما بطَن، وجعَل ولايتنا والمسلمين فيمَن خافه واتَّقاه، وطلب رضاه، آمين.