زياد محمد الغامدي
الجواب بكل بساطة نعم، ولكن هذا لا يعني أن التشريعات وضعت لخلق بيئة خصبة لغسيل الأموال، بل يعني أن بيئة التشريعات المتساهلة والتي تتصف بقلة القيود والمتطلبات، والتي تهدف في الأساس إلى جذب الاستثمارات تستغل في أحيان كثيرة من المجرمين الذين يمتهنون غسيل الأموال. وعادة ما تكون البيئة التشريعية متساهلة و(لينة) في الدول الفقيرة التي تسعى إلى جذب الاستثمارات الأجنبية والتي تعتمد - إلى حد كبير - في مصدر دخلها على هذه الاستثمارات. وأنا شخصيا لا أعرف دولة غنية ومتساهلة و(لينة) في بيئتها التشريعية، بل على العكس، أجد أنه كلما زادت الدولة غنى زادت صرامة وقوة وهيبة التشريعات الخاصة بها. كما أجد أيضا أن المتطلبات التشريعية في الدول الغنية أكثر تفصيلا وتطلبا لمعلومات وتفاصيل المستثمر ونشاطه ومصدر أمواله وغيرها من المعلومات المهمة والأساسية في مثل هذه الأمور. والحقيقة أن تشريعات بعض الدول من التساهل ما يجعلها تشكل مصدر خطر على العالم كله، ذلك أنها أصبحت مأوى لكثير (إن لم يكن لمعظم) عمليات غسيل الأموال في العالم. ومن هذه الدول جزر كايمان التي تقع غرب البحر الكاريبي، والتي ذكرت كثيرا في محاضر التحقيقات التي تجريها السلطات الأمريكية مع مصرف اتش اس بي سي المتهم بعمليات غسيل أموال لصالح إيران وعصابات الاتجار بالمخدرات في المكسيك.
ومن عجائب وغرائب هذه الجزر، والتي يبلغ عدد سكانها وفق آخر الإحصاءات المنشورة 45 ألف نسمة. إنها تسمح للمصارف بالتواجد عليها دون الحاجة إلى وجود مكاتب وموظفين! كما تسمح للمصارف بالإيداع نيابة عن عملائها الموجودين في دول أخرى دون الحاجة إلى الإفصاح عن مصادر أموال عملائهم مهما بلغ حجم هذه الأموال. فتفاصيل التحقيقات التي تجريها السلطات الأمريكية مع المصرف البريطاني اتش اس بي سي، تشير إلى أن المصرف يملك فرعا في هذه الجزر لا وجود له إلا على الورق، وأن أصول هذا الفرع تقدر بملياري دولار، كما أن هذا الفرع (المعجزة) لا يوجد به موظفون. وأن بنك اتش اس بي سي قام نيابة عن عملائه الكرام (تجار المخدرات في المكسيك) بنقل أموال نقدية بالطائرات الخاصة من المكسيك إلى هذه الجزر ومن ثم قام بإيداعها في فرعه (الوهمي) ومن ثم قام بإرسالها إلى وحدته المالية في نيويورك لغسيلها وإعطائها طابع الشرعية. وكل هذا تم بشكل قانوني دون مخالفة أي نظام من أنظمة جزر الكايمان.
وإذا كانت هذه ممارسة أكبر مصرف مقرض في بريطانيا، وأحد أكبر مصارف العالم، فلنا جميعا الحق في إطلاق العنان لمخيلاتنا لتصور الممارسات المصرفية للمصارف الأصغر حجما والأقل رقابة في هذه الجزر. إن النهم وراء جذب الاستثمارات في هذه الجزر أسس لبيئة استثمارية ذات طابع تشريعي هزيل لا يخفى على أي متخصص، كما أن جهات إجرامية عديدة استغلت هذه البيئة لتمرير عمليات غسيل أموال ذهب ضحية جمعها وتكوينها ملايين الأبرياء في مختلف أنحاء العالم. كما أن استمرار مثل هذه البيئة التشريعية لن يساعد أبدا في الجهد الدولي السامي لمحاصرة أعمال غسيل الأموال الناتجة والمستخدمة في الإرهاب والاتجار في البشر ونشر وترويج المخدرات وغيرها من الأعمال التي أقل ما يمكن أن توصف به أنها أعمال شيطانية وإجرامية وشريرة.
لقد أثبتت الوقائع التاريخية المختلفة أن صرامة البيئة التشريعية تلعب دورا مهما في مدى قدرة الدولة على مكافحة عمليات غسيل الأموال. كما تثبت الوقائع أن البيئات التشريعية المتساهلة و(اللينة) يسهل اختراقها واستغلالها من قبل عصابات وجماعات غسيل الأموال. كما تثبت الوقائع أيضا أن التساهل في القوانين والتشريعات لا تجذب استثمارات جادة تسهم في بناء اقتصاد قوي وخلاق، بل تجذب استثمارات ورقية تحقق أهدافا آنية قصيرة الأمد. ولقد حان الوقت لكي تتضافر الجهود الدولية لوضع تشريعات ملزمة لكافة دول العالم تلزم بحد أدنى من القوانين يجب أن تتوافر في الدول، يضمن من خلالها المجتمع الدولي أن هناك جهدا مبذولا من الدول لمكافحة أعمال الإجرام وأعمال غسيل الأموال، فقد عانت الإنسانية كثيرا ممن فقدوا إنسانيتهم، وارتضوا لأنفسهم أن يكونوا شياطين.