د. فهد بن عبد الله الحويماني
في يوم ما، قبل 200 عام، كان الجنيه المصري سيد الموقف، فكان الجنيه المصري الواحد يعادل 33 دولارًا أمريكيًّا، ثم بدأ بالانخفاض إلى أن تعادل معه الدولار في عام 1989، ثم استمر في الانخفاض بشكل تدريجي إلى أن أصبح الدولار الواحد يساوي 5.75 جنيه قبل الثورة، والآن نحو 6.10 جنيه للدولار. مشكلة الاستثمار في أي بلد تعتمد على العملة المحلية، التي إن لم تكن مستقرة يكون الاستثمار محفوفًا بمخاطر كبيرة. فهل العملة المصرية مستقرة بالشكل الذي يسمح بالاستثمار في مصر حاليًّا؟
غني عن القول، من منطلقات عربية وإسلامية، واجب على الشعوب العربية أن تدعم بعضها بعضًا، وهذا بالفعل يحدث حاليًّا من قبل بعض الحكومات العربية مثل السعودية وقطر، وبعض كبار المستثمرين العرب، لكن دولة بحجم مصر في حاجة إلى دخول رؤوس الأموال على نطاق أوسع من قِبَل مختلف الأفراد والمؤسسات المالية، وذلك من أجل خفض البطالة، ورفع نمو الناتج المحلي الإجمالي، والسيطرة على التضخم، وغير ذلك من ضروريات الاقتصاد القوي. وكي يتحقق ذلك، لا بد من الانتهاء عاجلًا من عملية إقرار الدستور واستقرار الجانب السياسي بشكل عام، وإنهاء التفاوض مع صندوق النقد الدولي للحصول على نحو خمسة مليارات دولار لتعزيز الاحتياطيات الأجنبية لدى البنك المركزي.
لمعرفة مدى مناسبة الاستثمار في مصر حاليًّا، علينا معرفة وضع الجنيه المصري، وإلى متى سيصمد البنك المركزي في دفاعه المستميت عن الجنيه المصري في سوق الصرف الأجنبي. كالريال السعودي، هناك ارتباط بين الجنيه المصري والدولار الأمريكي، غير أن الفرق هو أن الريال السعودي مثبت سعره أمام الدولار، بينما الجنيه المصري يعتبر رسميًّا معومًا مثل بعض العملات الدولية الكبرى، عدا أن البنك المركزي يقوم بالتأثير فيه بين الحين والآخر من خلال بيعه وشرائه من السوق مباشرة. وجربت مصر طرقًا عدة للسيطرة على سعر الصرف، من التثبيت الكامل إلى الربط بمجال يسمح بتحركات تصل إلى 3 في المائة، إلى أن عومته بشكل كامل عام 2003. ومنذ الثورة لم يخسر الجنيه المصري أكثر من 6 في المائة من قيمته، وهذه تحسب للبنك المركزي المصري. قارن ذلك ببعض الدول التي مرت بأزمات سياسية حادة، مثل العراق وإيران أو حتى لبنان في وقت سابق، التي سرعان ما تهاوت عملاتها ولم تستطع بنوكها المركزية امتصاص ما طبعته من نقود.
ولكن كيف استطاع البنك المركزي المحافظة على سعر صرف الجنيه بهذه الجدارة؟ الأمر ليس هينًا؛ لأن ذلك يتطلب التضحية بكميات كبيرة من احتياطيات البنك المركزي من الدولارات، التي انخفضت من نحو 40 مليار دولار قبل الثورة إلى نحو 15 مليار دولار حاليًّا. ومثل هذه التضحية تتطلب مساعدات خارجية لتعزيز الاحتياطيات، وإلا سيقف البنك المركزي عاجزًا عن الاستمرار في دعم الجنيه. إن السبب في الانخفاض التدريجي للجنيه المصري أمام الدولار يعود للتخوف من عدم مقدرة البنك المركزي على الصمود، ما قد يجعله يقوم بتخفيض العملة رسميًّا، وهو الأمر الذي استبعده الرئيس مرسي في محاولة لتطمين المستثمرين، على الرغم من تصاعد وتيرة الشكوك في أوساط المستثمرين والمحللين. ورغم أن تخفيض العملة مفيد للبنك المركزي ومفيد للصادرات المصرية، وهو كذلك ما يطالب به صندوق النقد الدولي؛ كون ذلك يخفف من تدهور الاحتياطيات الأجنبية، ويخفض من تكلفة الصادرات المصرية على المستورد الأجنبي، وينعش السياحة المصرية، إلا أن المستثمر، سواء الأجنبي أو المصري، لن يرضى عن ذلك لما في ذلك من نقص مباشر في عوائد الاستثمار. والسبب هو أن من قام بتحويل أمواله إلى العملة المصرية في وقت سابق، سيحقق خسائر مباشرة بمقدار نسبة انخفاض العملة حين يقوم بتحويل أمواله مرة أخرى إلى عملة بلده.
يتساءل بعض المستثمرين في المملكة عن جدوى الاستثمار في السندات المصرية التي تمنح عائدًا يتجاوز 15 في المائة سنويًّا، وهو أعلى بكثير مما يمكن الحصول عليه في الاستثمار في العقار السعودي، وبكل تأكيد أعلى بكثير من الإيداع في البنوك السعودية التي تمنح عائدًا بحدود نصف واحد في المائة! هنا نعود لمشكلة العملة التي لو كانت مستقرة بشكل قاطع لكان الاستثمار مجديًا للغاية، لكن حاليًّا العقود المستقبلية على الجنيه المصري تشير إلى انخفاض بنسبة 12 في المائة خلال أقل من عام، ما يعني أن المحصلة النهائية للمستثمر الأجنبي ستكون عائدًا بحدود 3 في المائة فقط. النقطة الأخرى، التي لا مجال للتوسع فيها هنا، هي أن طبيعة الاستثمار في السندات التي مددها أكثر من عام، هي أنه حتى لو كان العائد السنوي عاليًا جدًّا، فلا يضمن الشخص استرجاع قيمة السند الاسمية كاملة بسبب تغير سعر السند ذاته، لذا تجد أن الودائع في البنوك المصرية لا تمنح أكثر من 8 في المائة لمدة عام، بسبب ضمان استعادة رأس المال، على خلاف السندات.
وربما يسأل شخص: لماذا أصلًا تقوم الحكومة المصرية بالاقتراض بالعملة المحلية الواقعة تحت سيطرتها، حيث تستطيع بكل بساطة أن تبيع سندات من عندها يقوم البنك المركزي بشرائها وضخ العملة اللازمة لمصلحة الحكومة، كما تفعل أمريكا والحكومات الأوروبية؟ هذا بلا شك خيار في يد الحكومة المصرية، لكن على حساب ارتفاع القاعدة النقدية من الجنيه المصري، ما سيخفض من قيمة العملة ويرفع من مستوى التضخم، الأمر الذي يخالف التوجه الذي تعمل من أجله الحكومة المصرية حاليًّا. لذا تضطر الحكومة إلى الاقتراض بالدولار بمعدل فائدة مرتفع نسبيًّا يقارب 6 في المائة عن طريق إصدار سندات مقومة بالدولار. من باب المقارنة، لاحظ أن أمريكا تقترض بالدولار بمعدل فائدة لا يتجاوز 2 في المائة.
ختامًا، مسألة الاستثمار في مصر مسألة عملة في المقام الأول، وهو الأمر الذي يفسر سبب تثبيت عملات دول كثيرة أمام الدولار أو اليورو مثل الصين والأردن ولبنان وتونس وفنزويلا ودول الخليج، وبالتالي يبدأ وقت التفكير في الاستثمار عندما يكون هناك استقرار في العملة المحلية، ثم بعد ذلك يمكن النظر إلى الفرص الاستثمارية، سواء شراء السندات أو أسهم الشركات المصرية أو الاستثمارات العقارية الموجهة للسياح أو غيرها. ولا يستبعد وليس بمستغرب أن يتوقف البنك المركزي عن شراء الجنيه المصري إما بسبب نفاد الاحتياطيات، وإما للحفاظ على ما تبقى منها، وترك العملة تعمل بشكل عائم تمامًا، الأمر الذي قد يتطلب انتظار المستثمر عامًا أو عامين لمعرفة مكان استقرار العملة، الذي من تجارب سابقة قد يكون بعد انخفاض العملة من 30 إلى 50 في المائة.