محمد بن عبد الله الشريف
لعل من سوء حظ مرفق الكهرباء، وسوء حظ المستفيدين منه، أن بدا في الماضي كالوليد الذي افتقد الرعاية، تتقاذفه أيدي أكثر من أم، الأمر الذي أثر سلبا في بنيته وبنائه وكيانه، وكان اختلاف التوجه والنظرة والتخطيط، بين المرجعيات التي تقاذفته، عاملا رئيسيا فيما يعانيه هذا القطاع من مشاكل، كلما قيل إنها انتهت بدأت من جديد!..، فمن حالة التشتت في شكل شركات كبيرة وصغيرة، متعددة الشكل والأوضاع والتنظيم، في الماضي، إلى التوحيد (القسري) في شركة مساهمة واحدة، لم تجد الحكومة بدا من أن تكون المالك الأكبر لمعظم أسهمها، في محاولة لمساعدتها على المشي، هذا إلى جانب اختلاف المرجعيات الحكومية بين وزارة التجارة، ثم وزارة الصناعة والكهرباء، وأخيرا وزارة المياه والكهرباء، من جهة، والمؤسسة العامة للكهرباء، ثم هيئة التنظيم والإنتاج المزدوج، من جهة أخرى، وكأننا لم نميز الاختصاص الأقرب لهذا القطاع، هل هو الصناعة من حيث هو إنتاج صناعي متبلور؟!، أم المياه من حيث هو طاقة تنتجها المياه؟!..، ومهما توارت النتيجة، فإن الكهرباء مرتبطة الآن بوزارة المياه، ربما لاعتقادنا بأنها الأقرب، طالما أن جزءا كبيرا من الطاقة تنتجه محطات تحلية المياه، أو ربما لأننا نطمح في إنتاجها من مساقط المياه، في المستقبل، عندما تعود جزيرة العرب ينابيع وأنهارا، قبل قيام الساعة!..
الذي يهمنا بعد هذه المقدمة، أن نتأمل في الأسباب التي قادت إلى الأوضاع الحالية السيئة لقطاع الكهرباء، والتي لاشك أنها تقلق راحة معالي وزير المياه والكهرباء، وكلا من محافظ المؤسسة، والرئيس التنفيذي للشركة، ومن يعمل معهم من المخلصين، ويتمنون جميعا لو مر عليهم موسم صيف واحد دون مرابطة وتوجس!..، وقليلون هم من يدركون أن الأسباب الحقيقية للوضع الحالي تعود إلى الأسس والكيفية التي بنيت عليها هيكلة القطاع الأخيرة، التي نمت قبل أكثر من عقد من الزمن، والتي كان من سماتها إلغاء الإعانة الحكومية التي كانت تقدم للشركة، في مقابل أن تتنازل الحكومة عن نصيبها من الأرباح للشركة، وتركيز الشركة على أعمال التوزيع والتطوير، مقابل أن تتخلى ولو جزئيا عن أعمال التوليد والنقل لمستثمرين آخرين، إلى جانب السماح لكبار المستهلكين بالمشاركة في التوليد والنقل، لكن الشركة استأثرت بالعمل كله، ربما برغبة الاستحواذ على الربح كله!..، بيد أن السمة البارزة في التنظيم كانت التعرفة، التي بدت سخية مع بعض الفئات، مثل الصناعيين، والزراعيين، وبعض المستهلكين، حيث منحتهم خفضا يزيد على 50 في المائة، من السعر الذي تعامل به بقية الفئات، بما فيهم الحكومة ذاتها، وفضلا عن ذلك فرضت الهيكلة رسم خدمة العداد ورسم إعداد الفاتورة، كان الواضح أنها لمساعدة الشركة على إيجاد مصادر دخل إضافية، حتى وإن لم يكن لهذه الخدمات وجود على الطبيعة، لأن الواضح أنها أقحمت لمنفعة الشركة على حساب المستهلك!..
على كل حال دعونا نفند الأسباب الرئيسية لما آل إليه الوضع فيما يلي:
1- عدم تنفيذ جزء مهم من شروط الهيكلة، وهو التخلي عن أعباء النقل والتوليد لمتعهدين آخرين، مما أدى إلى أن ينوء كاهل الشركة بالحمل كله، فتعجز عن الوصول إلى الهدف، أو تبطئ في السير إليه!..
2- تأخر الشركة، ومن خلفها المؤسسة، ثم الوزارة في تنفيذ برامج الترشيد منذ إعادة الهيكلة، على الرغم من أن قرار مجلس الوزراء الخاص بالتنظيم ألزم الشركة بالتعاون مع الجهات ذات العلاقة، بوضع برامج شاملة وخطط إعلامية للترشيد، وهو الأمر الذي لم يبرز الاهتمام به إلا هذا الموسم حين بلغ السيل الزبى، وأحست الشركة بالخطر!..
3- عدم مراعاة العدالة في التعرفة، ففي الوقت الذي ألغيت في الإعانة منحت التعرفة سعرا لفئات يقل عن التكلفة، وعن السعر الذي تعامل به فئات أخرى بأكثر من 50 في المائة، وهو ما يخالف القاعدة الاقتصادية التي تقول إنه إذا تدخلت الحكومة بفرض سعر يقل عن التكلفة فعليها أن تتحمل الفرق كإعانة، وقد نتج عن ذلك وضع غريب يتمثل في أن بعض الفئات مثل متوسطي الاستهلاك والمنشآت التجارية يدفعون الإعانة لفئات أخرى مثل المصانع!..، وهو أمر لا ينسجم مع العدالة..
4- لم تأت أرباح الشركة بعد الهيكلة كما كان يؤمل، عندما ضحّت الشركة بالإعانة مقابل التنازل عن الأرباح، ظنا منها أن الأرباح ستتضاعف، وهو أمر لم يتحقق، على الرغم من سخاء الدولة فيه، وهي لا تسأل عنه بقدر ما يسأل عنه الوضع الإداري في الشركة، وعوامل النجاح والفشل خلال المرحلة التي تلت الهيكلة!.. وأخيرا، ولأن كل من كتب يحلل وينتقد، عليه أن يطرح الحلول، ولأنني أرى أن لا مخرج من الوضع المتأزم إلا بمراجعة أسس الهيكلة التي مضى عليها مدة طويلة ولم يثبت نجاحها فضلا عن أنها كانت مبنية على افتراضات لم تتحقق، على أن تكون الأولوية للأمور الآتية:
1- مراعاة العدالة عند مراجعة التعرفة، بأن تدفع كل فئة مقابل ما تستهلكه، وإذا رأت الحكومة منح فئات أو أكثر تخفيضا عن التكلفة تقوم هي بدفع الفرق كإعانة.
2- تخلي الشركة عن موقف الاحتكار لكل العمليات ومنح حقوق المشاركة في التوليد والنقل، وربما التوزيع لمستثمرين آخرين، مع السماح لبعض المستهلكين بإنتاج الطاقة لأنفسهم متى رغبوا في ذلك، ورأوا أنه في مصلحتهم!..
3- إلغاء رسم خدمة العداد ورسم إعداد الفاتورة، لأنها لا تتماشى مع قواعد العدالة والإنصاف التي يقوم عليها منهج الدولة، وبالإمكان إعادة رسم إيجار العداد الذي كان موجودا قبل الهيكلة.
4- الاهتمام بالترشيد في القطاعات الحكومية التي تستهلك ما لا يقل عن 20 في المائة من مجمل الطاقة، فتخفيض 50 في المائة، مثلا، من إنارة المرافق العامة والشوارع والميادين والطرق العامة، كفيل بتوفير جزء كبير مما يهدر دون فائدة تذكر.
والله من وراء القصد