الثقافة الذاتية في مجالس القراءة والاطلاع العام :
التعلق بقراءة الكتب ، والاطلاع عليها مسلك حضاري ، إذ هي معين ثر للثقافة وتحصيل المعرفة على تعدد أنواعها وصنوفها ، وتاريخ الحضارة الإسلامية حافل بأمثلة لعلمائنا الأوائل تعطي صوراً مشرقة لوعيهم بقيمة الكتب والعكوف على قراءتها والتهام محتوياتها ، والتسابق على اقتنائها ، والإفادة منها ، والمبادرة في تكوين المكتبات الخاصة والعامة في حواضر الدولة الإسلامية ، وذلك نابع من إدراكهم التام بأهمية ذلك كله في بناء صرح الحضارة، وإرساء دعائم العلم والمعرفة .
وقد وعى ذلك أجداد الملك عبدالعزيز وآباؤه منذ قيام الدولة السعودية الأولى؛ إذ كان الإمام محمد بن سعود وأبناؤه يحضرون حلقات درس إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وكان لابنه الإمام سعود مجلس قراءة مشهود ، تقرأ فيه أمهات الكتب في التفسير ، مثل تفسير الحافظ محمد بن جرير الطبري ، وتفسير ابن كثير ، وحضر هذا المجلس مؤرخ نجد المشهور ابن بشر ووصفه في تاريخه ، كما تحدث عن الإمام فيصل بن تركي وحرصه هو وأبناؤه على تحصيل العلم ، واقتناء الكتب حين قال:" وبالجملة فخوارق العادات لهذا الإمام كثيرة معلومة شهيرة بين الناس مفهومة، وأصلح الله ذريته، وأعطاه فيهم أمنيته ، فحفظوا القرآن على صدورهم ، ودأبوا في تحصيل التعلم في أصائلهم وبكورهم ، ولهم معرفة في العلوم الشرعية والآثار السلفية ، وجمعوا كتاباً كثيرة بالشراء والاستكتاب من كتب الحديث والتفسير ، وكتب الأصحاب "([i][30]). وعلى هذا النهج سار الملك عبدالعزيز فقد كان شغوفاً بالعلم وتحصيل المعرفة والثقافة على أيدي العلماء كما مر معنا في فقرة سابقة ، ومن خلال الكتب وقراءتها في مجالس منتظمة يداوم على حضورها ، ولا ينقطع عنها في حله وترحاله ، وقد تحدثت المصادر المعنية بسيرة الملك عبدالعزيز عن هذه المجالس ، وأفاضت في وصفها([ii][31]).
ويمكن أن نخرج من استعراضها بما يأتي :
أ– أن الملك عبدالعزيز كان مولعاً بحب القراءة والاطلاع ، ويحرص على تخصيص جزء من وقته في حله وترحاله للقراءة في أمهات الكتب ، بل يأنس بها ولا تفارقه في أسفاره ، ويؤكد ذلك ما حدثنا به الشيخ يوسف ياسين في الرحلة الملكية حين أشار إلى أن السلطان كان ينادي – إذا أغذَّ الركب في السير – أحد طلاب العلم من أبناء الشيخ ليقرأ في صحيح مسلم ، ثم يقرأ من تاريخ ابن الأثير ما يتعلق بالسيرة النبوية، ويتكرر هذا الموقف في أثناء الرحلة بقراءة كتاب الترغيب والترهيب ، وكتاب الآداب الشرعية لابن مفلح) ([iii][32])، وهذا يعني أن الملك عبدالعزيز كان يصطحب معه في سفره مجموعة من الكتب بقصد قراءتها ، والإفادة منها في قراءة جماعية ، وأحياناً قد يختلي بنفسه للقراءة الفردية ، ويمضي الحال على هذا المنوال طوال مدة المسير .
ب– أن الملك عبدالعزيز يتمتع بالفطنة والذكاء ، وقوة الحافظة لاستيعاب ما يقرأه أو يسمعه ، يذكر الشيخ عبدالعزيز بن فوزان أحد رجاله:" أن لجلالته ذاكرة عجيبة ذات مقدرة كبرى في استيعاب الحوادث وتسجيلها ، بحيث تظل منقوشة في طياتها ، خالدة في تضاعيفها، فإذا ما عرضت مناسبة من المناسبات لحديث يتصل بالماضي ، ويحتاج إلى استشهاد أفاض جلالته في الحديث كأنما يقرأ من كتاب ، أو كأنه يتدفق من نهر"([iv][33])، كما عرف عنه حسن الإنصات والتجاوب مع ما يقرأ عليه ، والتفاعل معه بالتعليق إن لزم الأمر، أو التباحث مع الحاضرين بشأن ما تمت قراءته في المجلس الذي كان يفتتح بالقرآن ، وتتعدد مسارات القراءة فيه بالتنقل بين أكثر من علم في الجلسة الواحدة ، فمن قراءة في التفسير إلى أخرى في الحديث، ثم التاريخ ، ثم الأدب والشعر، ويشير إلى ذلك وصف الأستاذ عبدالغفور عطار لواحد من المجالس التي حضرها حين قال :" وقد حضرت هذا المجلس العام ، كما حضرت مجلسه الآخر الذي خصص ليتعلم هو وموعده بعد صلاة المغرب ، وهو مباح لكل راغب في حضوره، ولا يرد عنه أي قاصد ، ويقع المجلس في بهو رحيب – ومجلسه العام الآخر مثله – وفي وسطه كرسي ومنضدة بقرب أحد الأعمدة عليها بعض المجلدات الضخمة، وفي الدقيقة المحددة يأخذ عالم مكانه من ذلك الكرسي وظّفه الملك ليقرأ، فيبدأ بكتاب الله عز وجل ، ويتناول أحد المجلدات فإذا هو تفسيره ، ثم يقف القارئ ويتحدث الملك ، أو أي أحد يريد ، ويدهشك من ابن سعود قوة واعية وإدراكه وحسن ذوقه للتفسير ، ثم ينتقل منه القارئ إلى مجلد آخر، فإذا هو في الحديث النبوي الشريف ، ثم ينتقل إلى التاريخ ، ثم إلى الأدب والشعر، ثم يختم المجلس بدعاء موجز يتلوه القارئ ، وإذا لم يتيسر لابن سعود الدراسة في مراحلها المعروفة فليس معنى ذلك أنه قليل المحصول من العلوم والآداب والفنون والمعارف الإنسانية ، بل لديه منها ذخيرة وافية نمتها عبقريته ، ومع أنّه مَلِك كثير التكاليف والتبعات فدائم القراءة أو الاستماع، ويتصف بذاكرة قوية، وحافظة قل أن تنسى، ولهذا كان من المثقفين، وأثر ثقافته لا يخطئه من يعرفه، أو يحضر مجلسه"([v][34])، ويؤكد هذا النهج الأستاذ الزركلي في وصفه لمجلس القراءة من حيث تعدد أنواع المعارف فيما يقرأ من كتب ، ومشاركة الملك وتفاعله معها([vi][35]) .
جـ– أن للملك عبدالعزيز مجالس قراءة يومية يداوم على حضورها ، وخصص لها موظفاً مهمته القراءة([vii][36]) ، ويتم اختباره بعناية ، لكي يقوم بهذه المهمة على الوجه المطلوب، ولابد أن تتوافر فيه أمور من أبرزها أن يكون من حفاظ القرآن الكريم ، والعارفين باللغة العربية ، ومن ذوي الأصوات الحسنة ، والاطلاع الجيد([viii][37])، وكان الملك عبدالعزيز ينصت في مثل هذه المجالس بكل عناية واهتمام وتركيز ، بل كان يستوعب ما يقرأ عليه ، ويختزن في ذاكرته الشيء الكثير منه ، ويتلقاه بذهن واعٍ مدرك ، إذ كان – كما يقول الأستاذ عبدالرحمن الرويشد – :" من دأبه عندما يبدأ القارئ في سرد موضوعات الكتاب أن ينصت ويتأثر ، وربما استعاد بعض المقاطع، وقد ذكر لي أحد الذين يحضرون مجالس الملك عبدالعزيز عندما يستحسن مقطعاً في موضوع، أو تلذ له أبيات من الشعر ، أو يرتاح إلى حكمة تمر عليه أثناء القراءة كان يستوقف القارئ ، ويأمره بأن يعلمّ على ذلك المقطع ، وبعد الفراغ من القراءة يأمر أحد الكتبة أن ينقل ذلك المقطع الذي علّم عليه ، ثم يستعيده فيما بعد ، وربما حفظه شعراً كان أو نثراً ، وكانت مكتبة الملك عبدالعزيز الخاصة تحوي مجلداً ضخماً من تلك المختارات"([ix][38]) .
د – أن مجالس القراءة كانت تنبض بالحيوية والمدارسة والمذاكرة ، لما يقرأ ترسيخاً له في الأذهان ، واستيضاحاً لما يحتاج إلى بيان عن طريق تدارسه والتعليق عليه من قبل أهل العلم والمعرفة من الحاضرين ، ويؤكد ذلك ما ذكره الزركلي في وصفه لمجلس القراءة حين قال :" وليس من عمل القارئ أن يشرح ، أو يزيد شيئاً على تلاوة المتن ، وفي أكثر الأيام تعلق في ذهن الملك آية يستشكل تفسيرها ، أو حديث نبوي أو موعظة أو حادثة من التاريخ تستحق التعليق عليها ، فيتساءل أو يتحدث بما يخطر بباله في الموضوع ، ويتناول أهل المعرفة وسواهم من الجالسين الآية ، أو الخبر تاريخياً أو أدبياً ، وربما كان بيتاً من الشعر بتعليقاتهم ، بل كان عبدالعزيز في أعوامه الأخيرة إذا انقضى الدرس أخرج الجلوس عن صمتهم بخبر سمعه ، وترك لهم مجال التعليق ، وقد يناقشهم ويناقشونه "([x][39]) .
هـ– أن اطلاع الملك عبدالعزيز واسع في معارف وعلوم عديدة ، شملت التفسير والحديث والتوحيد والسير والمغازي والتاريخ والسياسة الشرعية ، والمواعظ والرقائق . والأدب والشعر ، وكان يحرض على اختيار الكتب المفيــدة في هذه المجالات بنفسه أحياناً ، أو يسند هذا الأمر إلى أحد العلماء المشهورين من ذوي الخبرة بالكتب ، ومنهم العالم الفقيه الشيخ حمد بن فارس ، والعالم الأديب والحافظ الراوية الشيخ عبدالله بن أحمد العجيري ، وقد قام الأستاذ عبدالرحمن الرويشد بإعداد ثبت يحتوي على أسماء الكتب التي كان ينتقيها الملك عبدالعزيز ، التي كانت تتلى بين يديه مصنفة على حسب تخصصاتها ومجالاتها([xi][40]).
ومن المفيد أن نذكرها فيما يأتي :
في التفسير : تفسير ابن جرير الطبري ، وتفسير ابن كثير ، وتفسير القرطبي .
وفي الحديث : مسند الإمام أحمد، تجريد البخاري للزبيدي، رياض الصالحين، فضائل الإسلام، الترغيب والترهيب، سنن أبي داود .
وفي كتب التوحيد والعقائد : كتاب قرة عيون الموحدين ، كتاب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ، كتاب اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية .
كتب السير والمغازي والتاريخ : سيرة ابن هشام ، البداية والنهاية لابن كثير ، سراج الملوك ، كتاب الكامل لابن الأثير، كتاب الروضتين لأبي شامة ، تاريخ ابن غنام، عنوان المجد لتاريخ نجد لابن بشر ، تاريخ الخلفاء للسيوطي ، مروج الذهب في أخبار من ذهب للمسعودي .
الكتب المتعلقة بسياسة المجتمع والسياسة الشرعية :
الأحكام السلطانية لأبي يعلى ، السياسة الشرعية لابن تيمية ، الطرق الحكمية لابن قيم الجوزية ، الهدي النبوي المسمى بزاد المعاد ، سياسة الملك لابن الوردي المقدمة لابن خلدون .
في الأدب والطرائف :
روضة المحبين لابن قيم الجوزية ، الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ، الإمتاع والمؤانسة ، ديوان ابن المقرب ، ديوان الحماسة لأبي تمام ، ديوان المتنبي ، ديوان ابن مشرف، روضة العقلاء وبلغة الأدباء .
ومن كتب الوعظ والرقائق :
أهوال القبور لابن رجب ، الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم ، التخويف من النار لابن رجب ، وظائف رمضان لابن رجب ، التذكرة لابن الجوزي .
وهذه الكتب – كما يقول الأستاذ / الرويشد – تمثل ينبوعاً فكرياً لأسس ثقافة عبدالعزيز التي تجسدت عملياً في إدارته لشؤون الحكم والتعامل مع شعبه ومع الناس الآخرين.
وإلى جانب ما يقرأ عليه في مجلسه من كتب كان يعنى أيضاً بقراءة الصحف على اختلاف لغاتها ، وما كان منها بغير اللغة العربية تترجم محتوياتها من العلوم والأخبار والأحداث ، ويتعرف من خلالها على أحوال العالم ، ليكون على دراية بما يجري حوله، والنظر فيما يحتاج منها إلى رأي أو حكم([xii][41]) .
وثم شاهد ما مثل للعيان على هذا التوجه الحميد الذي ذكرته عن الملك عبدالعزيز نحو الكتب والعناية بها وقراءتها ، وجمعها والإفادة منها ، وهو يتمثل في تلك المكتبة الخاصة القيمة التي كونها الملك عبدالعزيز لنفسه، وتحتوي على (1551) مجلداً في شتى صنوف العلم والمعرفة التي تشمل القرآن وعلومه ، والتفسير ، والحديث وعلومه ، وأصول الدين والعقيدة ، والفقه وأصوله ، وفقه المذاهب ، والأخلاق الإسلامية ، والسيرة النبوية ، والعلوم العسكرية ، والإدارة العامة ، والاقتصاد ، واللغة العربية وآدابها، والطب، والأدب والشعر، والتاريخ ، والتراجم ، والجغرافيا، وآداب اللغات الأخرى ، والفلسفة ، والموسوعات ، والدوريات العربية العامة ، والمؤلفات المجموعة والدراسات النفسية، والمنطق، والأخلاق، وغير ذلك من العلوم والمعارف، وتشكل كتب العلوم الشرعية والإسلامية أكبر نسبة من محتويات المكتبة؛ إذ تبلغ 53 %، وتليها كتب التاريخ والجغرافيا والتراجم التي تبلغ نسبتها 25 %، ثم كتب اللغة العربية، وتبلغ نسبتها 20 % ، كما تحتوي على كتب نادرة مطبوعة قبل مائة عام([xiii][42])، ولا شك أن هذا التنوع المعرفي في محتويات هذه المكتبة يعكس مدى سعة ثقافة الملك عبدالعزيز ، واتساع دائرتها لتشمل علوماً ومعارف متنوعة ، تسهم بشكل فعّال في بناء قاعدة ثقافية واسعة وراسخة البنيان ، وتفاوت النسب في المحتويات يعكس مدى اهتمامه ببعض العلوم ، وعنايته الفائقة بها ، وتركيزه عليها ، ويأتي في طليعتها العلوم الشرعية والإسلامية ، ثم التاريخ ، ثم علوم اللغة العربية ، ثم ما سواها من العلوم والمعارف الأخرى ، ولا بد من الإشارة إلى أن مكتبة الملك عبدالعزيز قد آلت إلى دارة الملك عبدالعزيز بعد وفاته رحمه الله ، وهي محفوظة فيها بجميع محتوياتها ، وتلقى العناية اللائقة بها حفظاً وصيانة وتنظيماً وفهرسة .
([i][30]) عنوان المجد في تاريخ نجد لابن بشر (2/17)، ( 1/522)، طبع دار المعارف 1391هـ .
([ii][31]) انظر في ذلك : الرحلة الملكية ليوسف ياسين 92–93 ، شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز للزركلي (2/815 ، 915) وصقر الجزيرة للعطار ، 1414هـ ، وبحث الأستاذ عبدالعزيز الرويشد ( الجهاد الفكري للملك عبدالعزيز)، ضمن بحوث المؤتمر العالمي عن تاريخ الملك عبدالعزيز ، عام 1406هـ .
([iii][32]) انظر : الرحلة الملكية ليوسف ياسين 92 ، 93 .
([iv][33]) مع عاهل الجزيرة ، للعقاد ، ص 66 .
([v][34]) صقر الجزيرة لعبد الغفور عطار ، 1414هـ .
([vi][35]) انظر : كتابه شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز (2/518) .
([vii][36]) انظر : شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز (2/518) .
([viii][37]) المصدر السابق (2/518 ، 519) .
([ix][38]) بحث الجهاد الفكري للملك عبدالعزيز للأستاذ عبدالرحمن الرويشد ، ضمن بحوث المؤتمر العالمي لتاريخ الملك عبدالعزيز ( ص8 ، 9) .
([x][39]) شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز (2/519) .
([xi][40]) بحث الجهاد الفكري للملك عبد العزيز ، عبدالرحمن الرويشد ، ص 6 ، 7 ، 8 .
([xii][41]) الملك الراشد لعبد المنعم الغلامي (331) ، الطبعة الثانية ، دار اللواء بالرياض 1400هـ / 1980م .
([xiii][42]) انظر : التعريف بالمكتبة في مجلة الدارة ص 233 ، العدد الثالث ، السنة التاسعة عشرة ، ربيع الآخر والجمادان عام 1414هـ .
دارة الملك عبدالعزيز