رابعاً – الموهبـة الأدبيـة :
يتمتع الملك عبدالعزيز بموهبة أدبية تمثلت في قوله الشعر النبطي إلى جانب تذوقه للشعر العربي الفصيح ، ولديه موهبة واضحة في الصياغة النثرية لبعض ما يكتبه ، وأثرت عنه مواقف نقدية ، وآثار شعرية ونثرية تدل دلالة واضحة على تنامي الموهبة الأدبية لديه ، ويمكن أن نعرض لآثار هذه الموهبة ومعالمها فيما يأتي :
أ– يأنس الملك عبدالعزيز بالأدب شعراً ونثراً ، ويتذوقه ، ويتطلع إلى قراءة المزيد منه وحفظه، ويظهر هذا من خلال مجالس القراءة التي تحدثت عنها سابقاً ، فهي تشمل القراءة في كتب الأدب شعراً ونثراً ، وأكثر من ذلك نجد التعلق بالأدب، والاطلاع على كنوزه لا تغيب عن الملك في حله وترحاله ، إذ تراه في بعض رحلاته وأسفاره يصطحب معــه أحد العلماء والرواة الضليعين في الأدب وفنونه وروايته حفظاً واطلاعاً، وهو الشيخ الجعبري ، ويطلب منه في أثناء الرحلة ، أن يفيض مما عنده من مخزونه في فنون الأدب والشعر ، فيسوق من ذلك الشيء الكثير الذي يدعو للعجب ، ويوحي بسعة اطلاع العجيري ، وحفظه لقدر كبير من تراث العرب الأدبي ، وقد تحدث عن صنيعه هذا الشيخ يوسف ياسين في الرحلة الملكية حيث قال: ( فإذا بدأ في روايته رأيته كالسيل المنحدر يغرف من بحر ، ولا يتلعثم ولا يتلكأ ، يصل القول بالقول ، ويعزو كل قول لقائله ، ثم نراه يغرّب ويشرّق ، ويجوب حدائق الأدب العربي ، يقتطف من كل غصن زهرة ، وينثر علينا من زهور اجتناها وأودعها ذاكرة ما رأيتها خانته في ليلة ، ولا عزت عليه على طول الإدلاج ، وتكرر الأيام ) ([i][75]). وفي مكان آخر يقول عنه : ( ولقد أقام لنا الشيخ الدليل على أن ما رُوِيَ لنا عن أخبار الرواة الأولين وما كانوا يحفظونه من الشعر والنثر أمثال حماد والأصمعي وأبي عبيد حقائق واقعة .
وكان الملك عبدالعزيز إذا استقر به المقام في منزل من منازل الرحلة يحضر الشيخ العجيري مجلسه ، فيسأله الملك عن أحسن ما قالته العرب في الوصف ، أو في الحماسة، أو في الكرم ، أو في غير ذلك من فنون الكلام ، فلا تلقى الشيخ إلا حاضر البديهة ، سريع الخاطر ، يجيب كأنه استعد للجواب من قبل واستحضر له ، وأمره لم يكن كذلك بل هو وحي الخاطر وسرعة ذاكرته) ([ii][76]) .
وكان الملك عبدالعزيز يتغنى بالشعر الشعبي في بعض المناسبات ، ويطرب له كما أشار الزركلي عن ابن بليهد أنه كان في صحبة الملك عبدالعزيز ، ونزلوا على بئر الخُريزة في وادي بِرْك قال : فعرض علينا الملك . وقال : غنوا يا أهل شقرا فتجاذبنا الأصوات بأبيات منها :
حنا رجعـــــنا من الأفلاج كـــــل اللـوازم قضـينــاهــا
والهجن فوق الخُريزة داج ضامي وعطـن على ماهــا([iii][77])
ب – القدرة على تذوق الشعر العربي، وإدراك دقائق معانيه ، وتقويم بعضها ، وتشهد له بذلك بعض المواقف منها ، ما أورده الزركلي عن الريحاني أنه رأى على باب القصر الملكي بيتًا معروفاً من الشعر وهو :
لسنا وإن أحسابنا كرمت يـوماً على الأحساب نتكل
فقال للملك : هذا مبدأ شريف يا مولاي ، لكن البيت الثاني :
نبني كما كانت أوائلنــــا تبني ونفعل مثل ما فعلوا
فقال الملك : نحن نبني يا أستاذ كما كانت أوائلنا تبنى ، ونفعل – إن شاء الله –فوق ما فعلوا([iv][78])، وكأن الملك عبدالعزيز يشير بذلك إلى أن القراءة السليمة لعجز البيت في تقديره هي (تبني ونفعل فوق ما فعلوا)، ويصف ذلك الأستاذ عثمان الصالح بأنه منتهى الوعي والذوق الأدبي([v][79])، ومثل هذا الموقف ما ذكره الزركلي عن يوسف ياسين، قال:" كنت مع الملك في رحلة بالبر قبل أيام السيارات ، وأظلم الليل فجال في خاطري أن أتمثل بقول الشاعر :
لمعت نارهم وقد عسعس الليل وضلّ الهادي وحار الدليل
فقال الملك : كفانا الله الشر … العرب تتشاءم من هذا البيت يا يوسف"([vi][80]) .
وإلى جانب ذلك نجده يستحضر الشواهد من الشعر العربي عند الحاجة ، وفي بعض المناسبات ، وثَمّ مواقف عديدة تشهد لذلك منها : أنه تحدث مرة مع عبدالوهاب كاتب الحرم ، وأحد وزراء الشريف حسين السابقين ، ولدى مصافحة عبدالوهاب له علّق على نعومة يدي جلالته معبراً عن دهشته أن تكونا يدي محارب مثله ، ولم ينزعج الملك، أو يحرج ، بل ابتسم واستشهد ببيت الشعر المشهور :
إن الأفاعي وإن لانت ملامسها عند التقلّب في أنيابها العطب([vii][81])
وأورد الزركلي عدداً من النصوص الشعرية التي يستشهد بها الملك عبدالعزيز ويرددها في المناسبات، وهي([viii][82]) قول الأفوه الأودي :
تهدي الأمور بأهل الرأي ما صلحت وإن تولّـــــت فبالأشـــــرار تنقــــــاد
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا ســـــراة إذا جهالهـــــم ســـادوا
وقول علي بن المقرب الأحسائي :
تجاف عن العتبى فما الذنب واحــد وهب لصروف الدهر ما أنت واجد
إذا خانك الأدنى الذي أنت حزبــه فواعجبــــــاً إن سالمتك الأباعــــــــد
وسُمِعَ يتمثل بقول الفرزدق :
لا نقتل الأسرى ولكن نفكـــــــــهم إذا أثقــــــــل الأعناق حمل المغارم
وهذه الشواهد لها دلالتها ، فهي من الأبيات السائرة التي تجري مجرى الحكمة ، وتعبر عن قيم ومعاني إنسانية ، وتوجيهات سديدة ، صدرت عن تجارب ووعي بواقع الحياة والناس ، ومن يرددها يدرك ويعي مضمونها ، ويسوقها للغرض المناسب الذي ترمي إليه ، وهذه المواقف والشواهد تبرز بكل وضوح مدى ما يتمتع به الملك عبدالعزيز من تذوق للشعر العربي، وسرعة بديهة في استحضار بعض الشواهد منه إلى جانب الوعي بمعانيها ومضمونها .
جـ – أن لدى الملك عبدالعزيز موهبة الشعر النبطي الشعبي ، فقد أثرت عنه أبيات ومقطوعات عديدة قالها في بعض المناسبات، وقد أورد أمثلة من شعره الأستاذ فهد المارك، والأستاذ حمد الحقيل([ix][83])، وأشار الأستاذ فهد المارك إلى مصدره الذي استقى منه ما أورده الأديب محمد السديري الذي يقوم برصد هذه القصائد في كتاب خاص بها، ويذكر الزركلي أن رشدي ملحس كان أخبره بعرفه على تدوين ما ينسب للملك عبدالعزيز من شعر نبطي([x][84]) .
د – أن لدى الملك عبدالعزيز موهبة أدبية في مجال النثر ، برزت في الخطابة كما عرفنا سابقاً ، وفيما يتحدث به كما سيأتي، وإلى جانب ذلك لديه موهبة واضحة فيما يكتبه أو يمليه من رسائل ، وقد نوّه بذلك الأستاذ فهد المارك حين قال : ( أما ما يتمتع به عبدالعزيز من موهبة النثر فإن من يقرأ الرسائل والبرقيات التي يمليها على كتاب ديوانه يبدو له الأمر واضحاً أن لديه ملكة قوية ذات قدرة على صياغة المعاني الجيدة العارية عن التنميق والتزويق) ([xi][85]) .
== == == ==
([i][75]) الرحلة الملكية ليوسف ياسين ص 96 .
([ii][76]) الرحلة الملكية ص 98 .
([iii][77]) شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز (3/1061 ، 1062) .
([iv][78]) المصدر السابق (3/1062) .
([v][79]) جوانب من عبقرية الملك عبدالعزيز ص 16 .
([vi][80]) شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز (3/1061) .
([vii][81]) توحيد المملكة العربية السعودية لمحمد المانع ص 331 .
([viii][82]) شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز (3/1061) .
([ix][83]) انظر: نماذج لهذا الشعر في كتاب ( من شيم الملك عبدالعزيز ) لفهد المارك (3/12–116) ، وكتاب ( عبدالعزيز في التاريخ) لحمد الحقيل ص 83 ، 84 .
([x][84]) شبة الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز (3/1060) .
([xi][85]) من شيم الملك عبدالعزيز (3/118) .
دارة الملك عبدالعزيز