خامساً : الفـكر السياسـي :
يتمتع الملك عبدالعزيز – رحمه الله – بفكر سياسيّ نير رحب الآفاق بعيد الأغوار في شؤون السياسية الداخلية والخارجية ، وله في هذا المجال نظرات صائبة يسددها عقل يخطط ويدبر بحكمة واتزان ، وفكر واعٍ بأحوال القبائل والرجال الذين تعامل معهم ، فيما هو محيط به من قرى وهجر إبان تأسيس الدولة وتوحيدها، ولم شملها، وبأحوال العالم من حوله ، وما يعج به من مشكلات وتيارات سياسية .
وتاريخه المجيد حافل بمواقف كثيرة في نهجه السياسي وتعامله مع القضايا ، والسياسة الداخلية ، وكذلك السياسة الخارجية مع الدول العربية والإسلامية ، والغربية ، ذلك النهج الذي كان مثار إعجاب خصومه قبل أصدقائه ومناصريه وهو حافل بصور رائعة وحية من الحنكة والخبرة والدراية السياسية ، ولا يتسع المقام لبسط القول في جميع جوانب الفكر السياسي لدى الملك عبدالعزيز؛ إذ الحديث في هذا الجانب واسع، ويحتاج إلى دراسة خاصة به ، وقد تناولته بعض الدراسات والبحوث([i][86]) ، وتحدث الكثيرون عن عمــق فكره السياسي ، وأشادوا به ، يقول حافظ وهبة مستشاره الخاص: (لقد كان عبدالعزيز سياسياً بارعاً ، وكان واقعياً لا يخدعه الخيال ، ولا يتمسك بالأوهام ) ([ii][87]). ويقول عبدالله فلبي: ( وجدت ابن سعود رجل عمل لا يكل ولا يمل … وهو رجل ذو مواهب عملية وذو إلمام طيب بشؤون العالم ، وعلى علم تام بمشاكل السياسات العربية التي يقف منها موقف المشاهد بالغ الاهتمام) ([iii][88]). ومن المفيد أن نتلمس بعض معالم فكر الملك عبدالعزيز ونهجه السياسي فيما يأتي :
أ– يصدر الملك عبدالعزيز في فكره السياسي عن أساس من الثقافة والاطلاع على أحوال الناس والعالم من حوله للتعرف على أحداثه ومجرياتها، ويشير إلى ذلك الأستاذ عبدالعزيز التويجري في حواره الشيق الذي جاء فيه " قيل لي: إنه – رحمه الله – في أيامه مع الصراع ومع سوء الفهم بينه وبين الإخوان الذين كانوا يقومون بغارات على حدود البلاد العربية : الكويت ، العراق ، الأردن ، بنيّة الاقتحام ، أن بعض من حوله قال له : لماذا لا تتركهم على ما هم عليه ، لتسلم من سوء فهمهم لك ولتطورات العصر ؟ فغضب رحمه الله، وقال : – ما معناه– كيف تجرؤ على قول هذا الكلام عندي ؟! أتريد مني أن أرميهم في التهلكة، وأعرض وحدة هذا الشعب إلى الأخطــار والتبدد والتوزع ؟ إنهم لحم وعظم، سلاحنا بندقية، وسلاح بريطانيا وفرنسا بل والغرب أجمع قلاع من الحديد في الأرض وفي السماء وقنابل الموت والدمار ، أتريد مني أن أضحي بإخواني وفئة من شعبي لا تدرك حقائق العصر ومخترعاته ؟ أعوذ بالله منك ومما قلته … !! ليكن في علمك وعلم سواك أنني قبل أن أخرج من الكويت أفرغتُ نفسي لقراءة ما أمكنني قراءته من التاريخ ، وخصوصاً تاريخ دولتنا الأولى والثانية، وكيف قامتا؟ وكيف صانهما رجل؟ وكيف سقطتا على يد آخــر؟ تكونت لدي آنذاك صور عن جزء من التاريخ في قيام الدول وسقوطها ، وسيرى من يأخذ علي وقوفي عند هذه الحدود أني بذلك على صواب ، هذه الحدود يقف عليها في الجهة المقابلة في العراق، في الأردن، في فلسطين، في دمشق ، في مصر ، في عدن والخليج العربي إلى ما وراء ذلك ، استعمار بغيض. شعوبنا العربية في هذه البلاد لستُ أقوى منها ، ولا تملك بلادي قدراتها المادية والبشرية ، وليس شعبنا أكثر منها وعياً ، هي شعوب أملت على التاريخ حضارات عظمى وفتوحات في عالم واسع ، وقد جئتُ إلى بلادي بحسابات دقيقة أملاها عليّ التاريخ وأرسلتها إليّ الأحداث والعبر خصوصاً من دولتنا الأولى والثانية"([iv][89]) .
وكان يسعى للتعرف على ما يجري في العالم من تيارات ومذاهب سياسية وفكرية ، وقد يستفسر عن ذلك من بعض المثقفين والمفكرين الذين يحضرون بعض مجالسه ، يذكر الأستاذ أحمد عبدالغفور عطار أنه ( كان في سنة 1359هـ/ 1939م بمجلس الملك عبدالعزيز العامر بمكة المكرمة ، في أيام الحج ... وكان في المجلس كثير من أقطاب العرب والمسلمـين، وسأل سؤال من يريد أن يتعلم، وقال : يا إخوان أريد أن أفهم ما الشيوعيــة ؟
فقلت – يا طويل العمر –: إن الشيوعية أخطر مذهب وألأمه – من اللؤم– في هذه الأرض ، فهو ينكر وجود الله، ويجحد رسالات الرسل جميعاً ، وبنوا مذهبهم على زعمهم أن لا إله إلا المادة … إلى آخر حديثه ) ([v][90]) .
وكان يتطلع إلى معرفة أحوال العالم من خلال قراءة الصحف العربية والأجنبية التي يترجم له ما تحتوي عليه من أخبار العالم لتدارسها ، والتفكير فيها ومناقشتها للخلوص فيها إلى رأي أو موقف ، وشهد بسعة أفق فكره السياسي بعض المؤلفين الإنجليز مثل الكاتب الإنجليزي (بلارد) الذي وازن بين الملك عبد العزيز وسياسيين آخرين ، وخرج بنتيجة هي ( أن ميزة ابن سعود الأكثر وقعاً في حكمته السياسية ، وقد تطورت هذه الميزة مع تنامي مسؤولياته حتى بات في مستوى كل وضع محتمل أو مستجد، ملم بالشؤون الدولية ، وما لديه يفوق ما عند كثير من المثقفين الأوربيين) ([vi][91]). ويرجع ذلك كما أشار الأستاذ عبدالعزيز التويجري إلى رصيده الضخم من المعلومات عن مسرح السياسة الدولية ، ولديه قسم كبير في قصره خصص لرصد المعلومات المهمة ونشرات الأخبار وقراءة التاريخ([vii][92]) .
ب– يقوم الفكر السياسي عند الملك عبدالعزيز على ثوابت من المبادئ والقيم الإسلامية بخصائص فريدة ، أفصح عنها خادم الحرمين الشريفين الملك فهد في كلمته التي أفتتح بها المؤتمر العالمي لتاريخ الملك عبدالعزيز حين قال :" ولقد كانت السياسة بالنسبة له – رحمه الله – ثوابت تقوم على المبادئ والأخلاق، وتلتزم التزاماً مطلقاً بالمنهج الإسلامي إطاراً وسلوكاً ، قولاً وعملاً، كما تلتزم التزاماً مطلقاً بالحفاظ على المقدسات الإسلامية، واعتبار عقيدة المملكة وكرامتها وأمنها ومصالحها فوق كل اعتبار، والحفاظ المطلق على حقوق العرب والمسلمين، وتغليب هذه الحقوق وتعهدها ورعايتها بالحكمة والتشاور مع إخوانه زعماء العرب والمسلمين ، والاهتمام كذلك بالسعي إلى ترسيخ دعائم السلم والأمن الدوليين.
وفي مجال العلاقات الإسلامية ، وعندما كانت بعض البلاد الإسلامية تقع تحت الوصاية الأجنبية يشهد التاريخ أنه – رحمه الله – قد طالب بإصرار بأن تحترم الدول العالمية تعهداتها تجاه تلك البلاد ، وأن تحافظ على حقوق الأقليات المسلمة التي تعيش بينها قائلاً بالحرف الواحد : " إن لنا في الديار النائية إخواناً من المسلمين والعرب نطلب مراعاتهم وحفظ حقوقهم ، فإن المسلم أخو المسلم يحن عليه كما يحن على نفسه في أي مكان كان ... "([viii][93]) .
ومن هنا يتجلى لنا أصالة الفكر السياسي عند الملك عبدالعزيز فهو ( مبني على صفاء ونقاء الفكر الإسلامي الصحيح بعيداً عن النظريات والمذاهب السياسية السائدة التي لا تستند على جذور تسدد خطاها ، وتوجهها الوجهة الصحيحة إحساساً منه بالعلاقة القوية بين العقيدة الإسلامية والفكر السياسي السليم في العمل على جمع كلمة الناس وتوحيد صفوف أبناء دولته تحت راية التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وما تقتضيه هذه الكلمة من القول والفعل، وانطلاقاً من تحقيق مقتضيات هذا التوجه سعى الملك عبدالعزيز للأخذ بمبدأ الشورى الذي يعد من أسس الفكر السياسي في الإسلام) ([ix][94]) .
ج– لدى الملك عبدالعزيز مقدرة على بسط القضايا السياسية ، وشرحها بأسلوب واضح لا غموض فيه ، وفي وقت قصير بحيث يعيها سامعه بكل يسر وسهولة ، وتلك مزية نادرة اعترف بها رئيس أمريكا (روزفلت)، وأذاعها البرق بعد مقابلته للملك عبدالعزيز ، والحديــث معه في شؤون سياسية، ومنها قضية فلسطين، وذلك حين قال: ( لقد فهمت من الملك ابن سعود في عشر دقائق عن قضية فلسطين ما تعذر عليّ فهمه في عشر سنين) ([x][95]) .
د– الالتزام بنهج الحكمة والتروي والأناة في معالجة الأمور، ويعطي كل موقف بحسب ما يحتاج من اللين والحلم والتسامح أو الشدة والحزم ، وأشار ابنه البار الملك فيصل – رحمه الله– إلى هذا النهج في حديث قديم له عام 1367هـ حين تحدث عن مزايا والده فقال : ( وثالثة هذه المزايا حكمته وأناته في معالجته لأمور دولته ، وهو يتوخى حل المشاكل بالسلم أولاً ، كما أنه متسامح مع خصومه ، واسع الصدر لا يدخر وسعاً في استخدام المرونة ووسائل اللين ، ولا يلجأ إلى الشدة حتى يستنفد هذه الوسائل ، وأذكر أنه لما وقع الخلاف بينه وبين الإمام يحيى إمام اليمن السابق لم يتعجل الشدة ، وجعل يحاول حل ما وقع بينهما من خلاف باللين والحلم ، حتى كدنا نحن أبناؤه ورجال دولته أن نرميه بالضعف . فلم يعبأ بنا ، وسار في طريقه إلى الحد الذي لا ملام عنده للائم ، ثم اضطر إلى السيف اضطراراً ، وعندما توسط سادة من العرب بين الملكين كان سريعاً إلى الكف عن القتال .
وقد تم بفضل سياسة الحكمة والحزم التي يسير عليها في إدارة بلاده الواسعة إقرار الأمن فيها على منوال غير معروف في أكثر البلاد حضارة ومدنية ، فاطمأن الناس على أرواحهم وأموالهم حتى ندر وقوع الحوادث العادية ) ([xi][96]) .
هـ – أدرك بنظره الثاقب ، وفكره السياسي الواعي أموراً كثيرة كان الصواب حليفاً له في تقديرها ، والتعامل معها على ضوء ما لديه من خبرة اكتسبها بالمراس الطويل ، والتعامل المبكر مع الأحداث حيث كان أبوه قد أسند إليه مهاماً سياسية وقيادية وهو في ريعان شبابه كما مر معنا.
ومن معترك الأحداث التي واجهت آباءه وأجداده ، ثم واجهته هو عبر مسيرته الطويلة في تأسيس كيان الدولة خرج بحصيلة وافرة من التجارب والمران والخبرة الواسعة بشؤون السياسة الداخلية والخارجية ، ومع ذلك لم يكن مغتراً بنفسه ، بل كان من نهجه الاستشارة في كثير من الأمور ، فقد كان يستشير والده وأهل الخبرة من العلماء ، واتخذ له مستشارين من ذوي الرأي السديد – كما عرفنا سابقاً – ومن شواهد هذا الإدراك والنظرة الثاقبة أن الملك عبدالعزيز – رحمه الله – استطاع وسط الدائرة الخانقة التي تئن تحت يد الاستعمار البغيض أن يَخْلُص ببلاد حرة تملك كل معنى للحرية في أرضها وبحارها وسمائها ، لم يضع الاستعمار قدماً واحدة على شبر من أرض المملكة في أيام سلم أو حرب ([xii][97]) .
ومن خلال هذا الفكر السياسي الواعي كان للملك عبدالعزيز بعض التوقعات السياسية والعسكرية الصائبة بشأن ما حدث في عهده ، مثل توقعه انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية على هتلر زعيم ألمانيا ، وكان يحذر من هتلر وسياسته نحو العرب والمسلمين ، وكانت له آراء سياسية صائبة في عدد من القضايا العربية والإسلامية، ومنها رأيه في مشكلة فلسطين، ورأيه في مشكلة السودان مع مصر وبريطانيا حيث رأى أن يترك للسودانيين حق تقرير مصيرهم بأنفسهم([xiii][98]) .
و – انتهج الملك عبد العزيز في تعامله مع مواطنيه سياسة قائمة على الشورى والتناصح مسترشداً بما جاء به ديننا الإسلامي الحنيف ، وكان من أبرز معالم نهجه التواصل بين الراعي والرعية ، وسياسة الباب المفتوح؛ إذ هي في تقديره أيسر طريق وسبيل للتعرف على هموم المواطنين ، وتقديم ما يلزمهم من خدمات، وحل ما يعرض لهم من مشكلات وأزمات ، وتأكيداً لهذا النهج نجده في الكلمة التي وجهها إلى الناس بمناسبــة انتهــاء موسم الحج عام 1355هـ يقول: ( المقصد من اجتماعنا الليلة أن نتناصح، ونتعاضد ، ويطلع كل منا على ما عند الآخر ... ، أنا لا أحب أن أشق على الناس، ولكن الواجب يقضي بأن أصارحكم أننا في أشد الحاجة إلى الاجتماع والاتصال بكم لتكونوا على علم تام بما عندنا ، ونكون على علم تامّ بما عندكم، وأود أن يكون هــذا الاتصال مباشرة وفي مجلس لتحملوا إلينا مطالب شعبنا ورغباته، وتحملوا إلى الشعب أعمالنـــا ونوايانـــا، إني أود أن يكون اتصالي بالشعب وثيقـــاً دائماً؛ لأن هذا أدعى لتنفيــــذ رغبات الشـــعب، لذلك سيكون مجلسي مفتوحاً لحضـــور من يريد الحضور)([xiv][99]). وقد كان لهذا النهج الذي سار عليه الملك عبدالعزيز ، وتبعه في ذلك أبناؤه من بعده الأثر الكبير فيما تعيشه المملكة من تطور كبير قائم على روح التعاون والتفاهم والتلاحم بين الدولة والمواطنين([xv][100]) .
([i][86]) انظر في ذلك : شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز ، وصقر الجزيرة لعبد الغفور عطار ، ومن شيم الملك عبدالعزيز تعهد المارك ، والسعوديون والحل الإسلامي لمحمد جلال كشك ، ولسراه الليل هتف الصباح لعبدالعزيز التويجري .
([ii][87]) خمسون عاماً في جزيرة العرب .
([iii][88]) الذكرى العربية الذهبية لعبدالله فلبي ص 78 ، ترجمة مصطفى كمال فايد ، الطبعة الأولى مطبعة الاعتماد بمصر.
([iv][89]) لسراة الليل هتف الصباح ص 541 .
([v][90]) صقر الجزيرة (2/1415هـ ، 1416هـ) .
([vi][91]) لسراة الليل هتف الصباح ص 544.
([vii][92]) المصدر السابق ص 544.
([viii][93]) مجلة الدارة ، العدد الرابع ، السنة الحادية عشرة ، عام 1406هـ .
([ix][94]) انظر : مقومات ومنطلقات الفكر السياسي عند الملك عبدالعزيز في كتاب ( الملك عبدالعزيز والمملكة العربية السعودية المنهج القويم في الفكر والعمل) ، للدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي (49–61) .
([x][95]) شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز (2/522).
([xi][96]) شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز (1/22، 23) من حديث للأمير فيصل بن عبدالعزيز لمجلة المصور المصرية العدد رقم 125، عام 1367هـ/ 1984م .
([xii][97]) لسراة الليل هتف الصباح ص 538 ، وانظر : بحث قوة وإرادة الملك عبدالعزيز في تكوين المملكة للأستاذ عبدالرحيم عبدالرحمن ص 22 . ضمن بحوث المؤتمر العالمي عن تاريخ الملك عبدالعزيز عام 1406هـ .
([xiii][98]) انظر: التفصيل في موقفه من هذه القضايا في كتاب شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز للزركلي 1079، 1071، والسعوديون والحل الإسلامي لمحمد جلال كشك ص 49 –53، وتوحيد المملكة العربية السعودية للدكتور محمد السلمان ص 226 .
([xiv][99]) توحيد المملكة العربية السعودية للأستاذ عبدالله الحقيل ص 124 .
([xv][100]) المصدر السابق ص 122 .
دارة الملك عبدالعزيز